قلم : الشيخ الدكتور عبد الله حلا تخرج حسن البنا من دار العلوم سنة 1927م وعُين مدرساً في الإسماعيلية على قناة السويس حيث كانت مركزاً للوجود الإنكليزي المدني والعسكري، وكانت إدارة شركة القناة تتخذها مقراً لها، وكانت المعسكرات الإنكليزية تحيط بها من كل جانب، وهذا الوضع زاد من دوافع وحوافز الحركة الدعوية لدى البنا، فأخذ يرتاد المقاهي مستفيداً من تجربته السابقة في هذا المجال، وينتقل بروادها بعد إلقاء المواعظ إلى المسجد، بهدف تدريسهم الإسلام بشكل موسع ومركز استناداً إلى كتاب كامل اللَّه تعالى وسنّة الرسول (ص)، وقد استجاب جمهور الإسماعيلية لهذه الدعوة التي لا تبتغي غير مرضاة اللَّه عزّ وجلّ، ولهذا فقد أثرت فيهم شخصية الداعية أيما تأثير، بعد أن عُرِفَ البنا «بفصاحة ونصاعة حجته وملاءمة قوله وحسن اختيار لفظه، خطيب ممتاز لا يزاحمه مزاحم ولا يرتفع بجواره صوت ولا يباريه في ميدانه أحد من رجال عصره، ويمتلك ألباب سامعيه ويهز مشاعرهم، وله طابعه الخاص وسمته الثابت ووسائله المبتكرة، واتجاهاته المستقلة، لا يقلد أو يجاري أحداً من السابقين... يسنده في هذا علمه الغزير وقدرته الفائقة على جمع شتات أطراف أي موضوع مهما كان متشعباً، يجمعه جمعاً يدنيه من ذهن السامع ويقربه إليه بلا اقتضاب ولا إخلال... فهو دائرة معارف واسعة، يتحدث في أي موضوع بلا إعداد مهما كان هذا الموضوع، ويتخير في أحاديثه الأسلوب السهل والتعابير المناسبة»(2).
وكان الرجل متواضعاً محبباً إلى الناس «كان يجلس على الحصير إذا كان المجلس أرضاً، وفي اخر الصفوف إذا اصطفت المقاعد للجلوس منكمشاً فلا يكاد يُرى، متواضعاً فلا يكاد يُعرف، يلبس في غالب أحيانه الجلباب العادي من أرخص الأقمشة»(3). وعن تميز شخصية البنا يقول سعيد حوى: «لقد تجلت عبقرية الداعي مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها في ناحيتين خاصتين لا يشاركه فيهما إلا القليل النادر من الدعاة والمربين:
أولاهما: شغفه بدعوته وإيمانه واقتناعه بها وتفانيه فيها وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله، وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسية للدعوة والقادة.
والناحية الثانية: تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه، ونجاحه المدهش في التربية والإنتاج، فقد كان منشى‏ء جيل ومربي شعب وصاحب مدرسة علمية فكرية خلقية»(4).
وبعد نضوج ثمرات الدعوة في الإسماعيلية، قام عدد من أبنائها بزيارة شيخهم، ليتدارسوا معه واقع الأمة والمجتمع، والبحث عن طرق وأساليب المعالجة، ويسجل الرجل ما حدث في هذه الزيارة في مذكرات 2014ه قائلاً... «في مارس (اذار) 1928 زارني بالمنزل أولئك الإخوة الستة: حافظ عبد الحميد، أحمد الحصري، فؤاد إبراهيم، عبد الرحمن حسب اللَّه، إسماعيل عز، زكي المغربي، وهم من الذين تأثروا بالدروس مفصلة والمحاضرات التي كنت ألقيها... قالوا: لقد سمعنا ووعينا، وتأثرنا ولا ندري ما الطريق العملية إلى عزّة الإسلام وخير المسلمين، ولقد سئمنا هذه الحياة، حياة الذل والقيود، وها أنت ترى العرب والمسلمين في هذا البلد لا حظّ لهم من منزلة أو كرامة، وأنهم لا يعدون مرتبة الأجراء التابعين لهؤلاء الأجانب، ونحن لا نملك إلا هذه الدماء تجري حارة بالعزّة في عروقنا، وهذه الأرواح تسري مشرقة بالإيمان والكرامة مع أنفاسنا، وهذه الدراهم القليلة من قوت أبنائنا... وكل الذي نريده الان أن نقدم لك ما نملك لنبرأ من التبعة بين يدي اللَّه، وتكون أنت المسؤول بين يديه عنا وعما يجب أن نعمل، وإن جماعة تعاهد اللَّه مخلصة على أن تحيا لدينه، وتموت في سبيله، لا تبغي بذلك إلا وجهه، لجديرة أن تنتصر، وإن قل عددها، وضعُفت عُددُها... فقلت لهم في تأثر عميق: شكراً للَّه لكم وبارك هذه النية الصالحة، ووفقنا إلى عمل صالح، يرضي اللَّه وينفع الناس، وعلينا العمل وعلى اللَّه النجاح. فلنبايع اللَّه على أن نكون لدعوة الإسلام جنداً، وفيها حياة الوطن وعزّة الأمة»(5). وكانت هذه أولى المجموعات في حركة الإخوان المسلمين.
وبنى البنا مع إخوانه مؤسسات الحركة والدعوة، من مدرسة التهذيب التي يدرس فيها القران والحديث والفقه، ودار للإخوان وبجواره مسجد، ثم انتقلوا إلى بناء معهد حراء الإسلامي، لتدريس العلوم الدينية أول النهار والعلوم المهنية باقي النهار(6). وبعد ذلك تم إنشاء مدرسة أمهات المؤمنين... «وقد اشتملت الدار بعد بنائها على مسجد ومدرستين إحداهما للبنين والأخرى للبنات ونادٍ، وقدم البنا بذلك دليلاً على رغبته في ألا تقتصر الدعوة الإسلامية على الوعظ والإرشاد وإنما ينبغي أن تطابق وتطبق أحكام الإسلام في كل ميادين الحياة، ولا سيما أنه ألحق بدور الجماعة فيما بعد مصانع صغيرة ثم شركات كبيرة، لا لكي تنفق على سير الدعوة فحسب، ولكن لكي تقدم الجماعة من خلالها النموذج مقترح التطبيقي للالشريعة الاسلامية الإسلامية(7).
ومن الإسماعيلية تنطلق الدعوة إلى المدن والقرى المجاورة، وكان البنا النموذج مقترح الحي والقدوة أمام إخوانه من الناحية الدعوية «كان يجوب القرى للدعوة... وكان صبوراً... وكان يبتعد عن تنافس الأُسر فيقصد بيوت الفقراء إذا نزل بلدة، وإذا نزل بلداً لا يعرفه أحد فيها قصد إلى مسجدها، فإذا انصرف الناس عنه نام على حصير المسجد، وقد وضع حقيبته تحت رأسه ملتفاً بعباءته»(8).


يتبع





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©