محمد بن إسماعيل
البخاري

194 – 256هـ
هو سيِّد المحدِّثين وفقيههم الإمام الجهبذ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرِدزبه ()، أبو عبد الله البخاري، ولد في شوال سنة أولى94هـ.
وقد ذهبت عيناه في صغره، فرأت أمُّه في المنام الخليل إبراهيم عليه السلام، فقال لها: يا هذه، قد ردَّ الله على ابنك بصرَه لكثرة بكائك أو كثرة دعائك.
طلبه للعلم ونبوغه:
قال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: قلتُ لأبي عبد الله: كيف كان بدء أمرك؟ قال: ألهمتُ حفظَ الحديث وأنا في الكُتَّاب، فقلت: كم كان سنك؟ فقال: عشر سنين أو أقل. ثم خرجت من الكُتاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يوما فيما كان يقرأ للناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم. فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم. فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل. فدخل فنظر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم. فأخذ القلم مني، وأحكم كتاب كامله، وقال: صدقت. فقيل للبخاري: ابن كم كنت حين رددت عليه؟ قال: ابن إحدى عشرة سنة. فلما طعنت في ست عشرة سنة، كنت قد حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء، ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بها، وتخلفت في طلب الحديث.
شيوخ البخاري:
سمع البخاري من عبد الله بن محمد الجعفي المسندي، ومحمد بن سلام البيكندي وجماعة؛ وذلك قبل أن يرتحل، وسمع مكيّ بن إبراهيم، وعبدان بن عثمان، ويحيى بن يحيى، وعفان، وأبا عاصم النبيل، وحجاج بن منهال، وبدل بن المحبر، وعبيد الله بن موسى، وأبا نعيم، والحميدي، ومحمد بن يوسف الفريابي، وأبا مسهر، وغيرهم.
قال البخاري: كتبت عن ألف وثمانين رجلاً ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
قلت: يريد أنهم كلهم من أهل السنة والجماعة وأنهم على مذهب السلف الصالح.
كتاب كامله الصحيح:
قال الذهبي: وهو أعلى الكتب الستة سندًا إلى النبي r في شيء كثير من الأحاديث؛ وذلك لأن أبا عبد الله أسن الجماعة وأقدمهم لُقيا للكبار، أخذ عن جماعة يروي الأئمة الخمسة عن رجل عنهم.
قال البخاري: كنت عند إسحاق بن راهويه، فقال بعض أصحابنا: لو جمعتم كتاب كاملًا مختصرًا لسنن النبي r. فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب كامل.
قال الفربري: قال لي محمد بن إسماعيل: ما وضعت في كتاب كاملي «الصحيح» حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.
وقال البخاري: صنفت: «الصحيح» في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى ().
حفظ البخاري وسعة علمه وذكائه:
قال محمد بن أبي حاتم الوراق: سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان: كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب، حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يومًا بعد ستة عشر يومًا: إنكما قد أكثرتما علي وألححتما، فاعرضا علي ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديثا، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نُحكم () كُتبنا من حفظه، ثم قال: أترون أني أختلف هدرًا، وأضيع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدَّمه أحد.
وقال أبو أحمد بن عدي الحافظ: سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متنَ هذا الإسناد، وإسنادَ هذا المتنَ، ودفعوا إلى كل واحد عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس، فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فسأل البخاري عن حديث من عشرته، فقال: لا أعرفه. وسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه. وكذلك حتى فرغ من عشرته، فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض، ويقولون: الرجل فَهِم، ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز، ثم انتدب آخر، ففعل كما فعل الأول، والبخاري يقول: لا أعرفه. ثم الثالث وإلى تمام العشرة أنفس، وهو لا يزيدهم على: لا أعرفه. فلما علم أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول منهم، فقال: أما حديثك الأول فكذا، والثاني كذا، والثالث كذا، إلى العشرة، فردَّ كلَّ متن إلى إسناده، وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقر له الناس بالحفظ، فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: الكبش النطَّاح.
قال البخاري: ما قدمت على أحد إلا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به.
وقال البخاري: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني، وربما كنت أغرب عليه.
وقال أحمد بن عبد السلام: ذكرنا قول البخاري لعلي بن المديني – يعني: ما استصغرت نفسي إلا بين يدي علي بن المديني – فقال علي: دعوا هذا؛ فإن محمد بن إسماعيل لم ير مثل نفسه.
وقال إسحاق بن راهويه: اكتبوا عن هذا الشاب – يعني: البخاري – فلو كان في زمن الحسن () لاحتاج إليه الناس؛ لمعرفته بالحديث وفقهه.
وقال أحمد بن حنبل: ما أَخْرَجَتْ خراسان مثل محمد بن إسماعيل.
وقال رجاء الحافظ: فَضْل محمد بن إسماعيل على العلماء كفضل الرجال على النساء، فقال له رجل: يا أبا محمد، كل ذلك بمرة؟! فقال: هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض.
وقال محمد بن يوسف الهمداني: كنا عند قتيبة بن سعيد، فجاء رجل شعراني يقال له: أبو يعقوب، فسأله عن محمد بن إسماعيل، فنكس رأسه، ثم رفعه إلى السماء، فقال: يا هؤلاء، نظرت في الحديث، ونظرت في الرأي، وجالست الفقهاء والزهاد والعباد، ما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل.
وقال الإمام مسلم – وجاء إلى البخاري – فقال: دعني أُقَبِّلُ رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله.
وقال صالح جَزَره: كان محمد بن إسماعيل يجلس ببغداد، وكنت أستملي له، ويجتمع في مجلسه أكثر من عشرين ألفًا.
عبادته وفضله وورعه:
قال بكر بن منير: سمعت البخاري يقول: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدًا.
وكان يصلي فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته قال: انظروا أيش آذاني. وقال: ما أردت أن أتكلم بكلام فيه ذكر الدنيا إلا بدأت بحمد الله والثناء عليه.
وفاته رحمه الله تعالى:
قال عبد الواحد بن آدم الطواويسي: رأيت النبي r في النوم، ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقف في موضع، فسلمتُ عليه، فردَّ عليَّ السلام، فقلت: ما وقوفك يا رسول الله؟ قال: أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري. فلما كان بعد أيام بلغني موته، فنظرت فإذا قد مات في الساعة التي رأيت النبي r فيها.
وقال الحسن بن الحسين البزَّار: توفي البخاري ليلة السبت ليلة الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومئتين، وعاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا، وكانت وفاته ودفنه بقرية حَرْتَنْك قرب سمرقند.








©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©