مالك بن نبي



يعتبر مالك بن نبي ومدرسته من أكثر المدارس الفكرية التي كان لها أثر واضح في تحديد وصنع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها من المدارس الأخرى بدراسة مشكلات الأمة الإسلامية؛ انطلاقا من رؤية حضارية شاملة ومتكاملة. فقد كانت جهوده لبناء الفكر الإسلامي الحديث وفي دراسة المشكلات الحضارية عموما متميزة؛ سواء من حيث المواضيع التي تناولها أو المناهج التي اعتمدها في ذلك التناول.

مالك بن نبي: رجل فكر ومفكر حضارة (بقلم قدور بن عماد)

رجل ذهب مذهبا جديدا في التصور الإسلامي الرشيد، وفي صياغة العقلية الإسلامية صياغة منهجية منسجمة ومتكاملة. رجل جعل أول همه ينصب على الإشتغال بالقرآن الكريم قراءة ودراسة وتدبرا، فهو سلفي العقيدة بهذا الولاء وهذا الانتماء، كيف لا وهو صاحب كتاب “الظاهرة القرآنية” الذي يعتبر ذخيرة جديدة في المكتبة الإسلامية أشعلت ثورة جديدة في التفسير الموضوعي والعلمي لطالب عصره وشاهد قرنه وإنسان يومه، هذا الطالب الذي أحاطت به التساؤلات واكتنفته الاهتمامات وطوقته الانشغالات حتى صار تائها في بحر خضم من الأفكار والتيارات الجارفة وحائرا في مفترق الطرق بين الهدايات والضلالات.

رجل اهتم اهتماما بليغا بتفسير آيات النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي وغيرها من مثيلات، فهو يرى أن القرآن الكريم هو النص المبدئي للتاريخ التكويني، ولهذا فيجب تفسيره تفسيرا حيا غير سردي نظري مجرد ولا تحليلي تقليدي معمق، وإن كان كل جديد من تأليف هو عالة على كل عتيق من تأليف.

رجل يعد حقا من المجددين لهذه الأمة أمر فكرها، وتصورها، وحياتها، مصحح لنظرة المجتمع للكون والحياة، نظرة بعيدة في أفق المكان والزمان معا نظرة عميقة في الحضارة والثقافة والتاريخ ورقعة الأمة الإسلامية وكيانها المادي والمعنوي، والرسالة الخالدة.

رجل أراد أن يجعل من العقل طاقة كامنة ومحركة في آن، طاقة منتجة ومتحورة، تبدأ في التفجير والاندفاع من حيث انتهى جهد أسلافها، دافعة مشاريعها الكبرى دفعا إيجابيا في عالم الإدراك الحسي والمعنوي، بالفهم والإبداع والعطاء…

رجل شعر شعورا كبيرا بالمسؤولية الحضارية تجاه أمته الإسلامية عامة وتجاه وطنه الجزائر خاصة، فظهر هذا الشعور والإحساس البالغ منه جليا لما لم يعد يفكر في مركز اجتماعي له، بل أصبح يشعر وكأن المجتمع الجزائري والإسلامي قد حمله الجسيم من المسؤوليات ليحقق له الخلاص بفضل دراسته هناك في بلاد الغرب أين انتابه هذا الإحساس العميق.

رجل غامر بحياته في بلاد الكفر ودار الجاهلية وخاطر بها في مجالات الأفكار وحروب المبادئ حتى لا يغامر المنتسبون للدين والمتطفلون والمنتحلون المبطلون أو يراهنوا بحضارة أمة، يجرونها بسذاجة عقولهم إلى المسدود من طرق الحياة حتى لا تنهار بتردي أفكارهم وعقم تصورهم أصول وأسس حضارة ومبادئ وركائز دين كان وما زال يتعاقب على وضع ورص لبناته لبنة لبنة من أبنائه جيل بعد جيل المخلصون في نياتهم وقصدهم والصادقون في عزائمهم وإراداتهم أولو البصائر والإدراك وأرباب العلوم والمعارف وأصحاب التقوى وحسن الخلق الذين لا يريدون إلا الإصلاح ما استطاعوا، وهذا دأبهم منذ عهود سحيقة…

رجل ذب عن الإسلام وقيمه وقدم خدمات جليلة في كشف الجانب التبشيري والاستعماري للاستشراق، وتبيه المجتمع الإسلامي إلى خطورة الدعوات التي تضرب جذورها في تربة التبشير والصليبية في أوجهها الجديدة.

رجل يمثل بحق تفتح العقل المسلم العربي المعاصر على مشكلات العصر، وعلى قضايا الثقافة والحضارة والأصالة والمعاصرة والثبات والتغير، ثم على قضايا هامة كبرى لم تكن قد أخذت بعد مكانها في التفكير الإسلامي العربي الحديث كخطورة “التراكم الشيئي” دون التغيير الفكري والنفسي العميق و”الغزو الفكري” و”القابلية للاستعمار”، وكل هذا ضمن مفاهيم من الفلسفة الاجتماعية خاصة في المرحلة ما بعد الاستقلال في الدول الحديثة من حيث قابليات الاستسلام والاستهواء وأساليب الغزو الفكري والحضاري.

رجل عد مشكلات أمته والإنسانية مشكلته وهمه وقصده، حتى راح يصدر مكتوباته ومؤلفاته في سلسلة ذات تسمية موقظة للهمم هي: ” مشكلات الحضارة”.

رجل رسم الحدود بين مرحلة “تصحيح الفكر” و”بدء التقدم المادي التكنولوجي والاقتصادي” وسلط الأضواء في محاضراته ومؤلفاته وركز الجهود وكرسها في سبيل إيضاح “الخريطة الإيديولوجية العالمية” وتبيان “الإستراتيجية الفكرية المعاصرة” وموقف المسلمين منها ودور الإسلام المقبل فيها…

رجل عرف منذ عهود حياته الأولى بالسمت حيث كان يؤثر الصمت ويميل إلى الوحدة، واتجه منذ نشأته نحو تحليل الأحداث التي كانت تحيط به، كما أعطته ثقافته المنهجية قدرة على إبراز مشكلة العالم المتخلف باعتبارها قضية “حضارة” أولا وقبل كل شيئ، حتى راح ساعيا في علاجها من جذورها مما جعله يحتك فيما بعد بمختلف الشرائح الواعية والنخبوية.

رجل لم يكن يثق في ثقافة الغرب الثقة العمياء في مجال “الإنسانيات” ولربما أسرف في سوء الظن والنقد أحيانا، لكنه كان بعيدا عن الرفض المطلق لأي علم نشأ بدعوى أنه ازدهر في بلاد الغرب أو في أرض غير إسلامية كما أنه كان يحترم “العلم المحايد” القائم على المناهج والقوانين العامة والدراسات المنهجية، التي هي بمثابة جهود الإنسانية العلمية، ويرى استصحاب القيم الإسلامية الفكرية والخلقية في كل مجال..

رجل كان رغم “المعاصرة” و” الفكرية” في تفكيره وتكوينه الثقافي وحياته في فرنسا، يعيش في الجزائر في بيت بسيط الأثاث، لكنه يغص بالزوار والقاصدين من أبناء الفكر الإسلامي.

رجل لم يشغله تكوين الرجال عن تأليف الكتب، كيف لا وما زال الناس يسمعون من الحين والحين بما يسمى ” جماعة ابن نبي ” و” فكر مالك بن نبي” و”سلسلة مالك بن نبي” وبـ “ملتقيات مالك بن نبي” وما إلى ذلك الرصيد الفكري الزاخر الثري مما خلفه الرجل لنا من آثار ومآثر مادية ومعنوية.

رجل قدم أطروحة خطيرة وجليلة في توحيد إقليمين كبيرين من أقاليم الدنيا، غفريقيا وآسيا، وهذا في مؤلفه ” الفكرة الإفريقية الآسيوية”.

رجل عده بعض المفكرين المعاصرين حلقة وسيطة بين “النهضة” و” الصحوة” الرجل قدم أطروحة خطيرة وجليلة في توحيد إقليمين كبيرين من أقاليم الدنيا، إفريقيا وآسيا، وهذا في مؤلفه ” الفكرة الإفريقية الآسيوية”.

رجل عده بعض المفكرين المعاصرين حلقة وسيطة بين “النهضة” و” الصحوة” الاسلاميتين.

رجل عقدت من أجله اللقاءات والملتقيات وألقيت لفكره المحاضرات وأقيمت المعارض والأيام الدراسية والندوات وقدمت البحوث والرسائل والأطروحات، فهو بحق وبدون مجاملة ولا فخر أعيا أولي النهى من أرباب الفكر في عصره وبعده طرحه حتى كادت تغدو أفكاره وإشاراته طلاسم ألغاز لا يمكن الوصول إليها أو فهمها إلا من خلال شرحه هو نفسه أثناء ندواته أو بتظافر جهود العلماء على تحليلها وتفسيرها…

رجل تم على يديه وبإشارة منه فتح أول مسجد بجامعة الجزائر (الجامعة المركزية) إدراكا منه لقيمة التكوين الجامعي المشترك أي من الجامع وهو المسجد ومن الجامعة وهو اشتراك محراب الإيمان ومحراب العلم على أداء الرسالة الكبرى في هذه الحياة.

مالك بن نبي : كرونولوجيا تاريخية

[align=right]1905: ميلاد مالك بن نبي بمدينة تبسة، ولاية قسنطينة آنذاك.

1912: مالك بن نبي يشهد الهجرة الجماعية التي قام بها كثير من الأسر الجزائرية من مختلف المدن إلى طرابلس الغرب رفضا للاستعمار، وكان ممن هاجر جده لأمه، مما ترك فيه أبلغ الأثر.

1918: دخوله المدرسة المتوسطة بقسنطينة.

1921: نجاحه في امتحان دخول الدراسة الثانوية بقسنطينة، وبداية لقائه بطلبة ابن باديس في قسنطينة، ثم لقائه بابن باديس. كما تتلمذ على يدي الشيخ ابن الموهوب أحد تلامذة المصلح الكبير عبد القادر المجاوي

1925: حصوله على شهادة الثانوية العامة التي تؤهله لدخول الجامعة. غير أنه بقي دون عمل فترة من الزمن، ليلتحق بعدها بمحكمة تبسة، قسم المحكمة الشرعية عاملا متطوعا برتبة مساعد قضائي. ثم تعيينه رسميا بمحكمة أفلو بالغرب الجزائري، وكانت هذه التجربة بالنسبة له فرصة للتعرف على حيثيات الواقع الجزائري، وخصائص الرجل الذي صقله الاسلام وجعل منه –رغم عهود التخلف- في شروط أقرب ما تكون إلى أخلاق الحضارة.

كما أنه كان أول من أدخل جريدة الشهاب لمنطقة أفلو.

1928: عند رجوعه إلى تبسة زار في طريقه الأستاذ الإمام ابن باديس.

1929: يتخلى عن العمل في المحكمة، وبداية التفكير في الرحلة إلى فرنسا.

1930: ذهب ابن نبي إلى باريس ليلتحق بمعهد الدراسات الشرقية، لكن مدبري الصراع الفكري وفي مقدمتهم بعض المستشرقين الحاقدين على الإسلام حالوا آنذاك دون دخوله هذا المعهد.

1930-1935: دخوله معهد (البوليتكنيك) بباريس، وتعرفه على صديق عمره الأستاذ الفقيد حمودة بن الساعي. ومعا أسسا "جمعية الوحدة المغربية" واتصل بأحزاب الحركة الوطنية، كما كانت له صلات بطلبة الدول المستعمرة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والمشرق العربي، والتقى خلال دراسته في فرنسا بالمهاتما غاندي، وشكيب أرسلان، ومصالي الحاج، وعبد الله دراز أحد أهم أصدقائه، ولويس ماسينيون، وكثير من المفكرين والزعماء والمستشرقين.

1931: زواج مالك بن نبي من زوجته الفرنسية المسلمة خديجة.

1935: تخرج مالك بن نبي مهندسا كهربائيا في معهد (البوليتكنيك) بباريس. وامتنع من الرضوخ للضغوط الاستعمارية مما حال دون توظيفه ودون أحلامه في الهجرة إلى بعض البلدان الإسلامية، وسمحت له روحه النقدية ودراساته الاجتماعية والفلسفية والسياسية واحتكاكه بالأوساط الثقافية بالانكباب على مشاكل العالم الاسلامي يدرسها ويحللها وينظّر لها.

1946 صدور كتاب الظاهرة القرآنية _في نسخته الفرنسية- مفتتحا سلسلة "مشكلات الحضارة".

1947: صدور كتاب "لبيك".

1948: صدور كتاب "شروط النهضة".

1954: صدور كتاب "وجهة العالم الإسلامي" في نسخته الفرنسية.

1956: انتقل بن نبي إلى القاهرة لاجئا سياسيا من بطش الاستعمار الفرنسي. وفي تلك السنة أصدر كتاب "فكرة الإفريقية الأسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ".

1957: صدور كتاب "النجدة للجزائر"، و كتاب "مشكلة الثقافة"، وكتاب "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة".

1958: صدور كتاب "حديث في البناء الجديد"، وكتاب "فكرة كمنويلث إسلامي".

1959: صدور الترجمة العربية لكتاب "الظاهرة القرآنية" في القاهرة.

1960: صدور كتاب "ميلاد مجتمع"، وكتاب "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي".

1961: صدور كتاب "في مهب المعركة".

1962: العودة للوطن بعدا استعادة الجزائر حريتها واستقلالها نتيجة لكفاح وجهاد مستمر منذ 1830 إلى 1962 تخللته سلسلة من المقاومات الشعبية المسلحة والسياسية السلمية توجت بثورة نوفمبر 1954 المباركة.

1964 إصدار كتاب "آفاق جزائرية".

1965: عين مستشاراً للتعليم العالي، ثم مديرا لجامعة الجزائر، ثم مديرا للتعليم العالي بوزارة التربية الوطنية. وفي تلك السنة أصدر النسخة الفرنسية من كتاب "مذكرات شاهد القرن-الطفل" بالجزائر العاصمة

1967: استقالته من منصبه بوزارة التربية الوطنية وتأسيسه لندوة فكرية في بيته التي جمع لها نخبة متميزة من الطلاب والمثقفين. كما أصدر كتاب "أعمال المستشرقين".

1968 (سبتمبر) فتح أول مسجد بالجامعة الجزائرية الوحيدة آنذاك؛ مسجد الجامعة المركزية بالجزائر العاصمة. ومنه كانت النواة الأولى لإحياء جهود جمعية العلماء وابن باديس، وكان هذا المسجد النواة الأولى للصحوة الإسلامية المعاصرة في جزائر الاستقلال. وفي تلك السنة أصدر كتاب "الإسلام والديمقراطية".

1968 (ديسمبر) تنظيم ملتقى التعرف على الفكر الإسلامي بثانوية عمارة رشيد في العاصمة بسعي نخبة من كبار تلاميذه نخص منهم بالذكر الأستاذ رشيد بن عيسى والأستاذ عبد الوهاب حمودة.

1969: ظهور الحجاب في الجامعة الجزائرية بتأثير من الأستاذ مالك بن نبي، وكان أن بادر أربع طالبات من طالباته، رائدات الندوة الفكرية في بيته، بارتداء الحجاب وسط حصار التيار العلماني - الماركسي وقتئذ على طلبة مسجد الجامعة، وكأن الله تعالى راعى التوزيع الجغرافي في ذلك، فواحدة من مدينة باتنة (مريم) والثانية من القبائل الكبرى (فوزية) والثالثة من القبائل الصغرى (حسينة) والرابعة من تلمسان (فائزة).

1970: صدور الترجمة العربية لكتاب "مذكرات شاهد القرن-الطالب"، وكتاب "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي".

1971: وكأن مالك بن نبي استشعر قرب أجله، فقام بجولة إلى الحجاز والشام ومصر دامت سبعة أشهر، أدى فيها فريضة الحج، وألقى فيها عدة محاضرات في دمشق وبيروت والقاهرة، وسجل حقوق نشر كتبه وسلم حق التصرف فيها إلى صديقه الأستاذ عمر كامل مسقاوي.

1972 : (ديسمبر): تنظيم أول معرض للكتاب الإسلامي في الحي الجامعي بابن عكنون، فكانت أول تظاهرة إسلامية حرة تعرض الإسلام ومفاهيمه ونظمه لسائر الناس من خلال الكتب والمعلقات والمحاضرات والمناقشات. وكذا صدور كتاب "المسلم في عالم الاقتصاد".

1973: (بداية العام) كانت محاولة حرق مسجد الجامعة المركزية من قبل الشيوعيين. وفي تلك السنة أيضا صدر كتاب "دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين".

1973 (31 أكتوبر) انتقل مالك بن نبي إلى رحمة الله تعالى عن عمر ناهز الثامنة والستين، وخلف تراثا فكريا غنيا في قضايا تمثل محور الفكر الإسلامي المعاصر. فرحمه الله رحمة واسعة وتقبله في الصالحين[/align]


منقول عن موقعي "مالك بن نبي" و "الشهاب"




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©