بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
قوله تعالى :" وآتينا موسى الكتاب كامل وجعلناه هدى لبني إسرائيل أن لا تتخذوا من دوني وكيلا * ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا * وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب كامل لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا * إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ".
وقال وهب بن منبه : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا حين ظهرت فيهم المعاصي : أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم قلوباً ولا يفقهون ، وأعيناً ولا يبصرون ، وآذاناً ولا يسمعون ، وإني تذكرت صلاح آبائهم فعطفني ذلك على أبنائهم . فسلهم كيف وجدوا غب طاعتي ، وهل سعد أحد ممن عصاني بمعصيتي ، وهل شقى أحد ممن أطاعني بطاعتي ؟ إن الدواب تذكر أوطانها فتنزع إليها وإن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها ، أما أحبارهم فأنكروا حقي ، وأما قراؤهم فعبدوا غيري ، وأما نساكهم فلم ينتفعوا بما علموا ، وأما ولاتهم فكذبوا علي وعلى رسلي ، خزنوا المكر في قلوبهم وعودوا الكذب ألسنتهم ، وإني أقسم بجلالي وعزتي لأهيجن عليهم جيوشاً لا يفقهون ألسنتهم ، ولا يعرفون وجوههم ولا يرجمون بكاءهم ، ولأبعثن فيهم ملكاً جباراً قاسياً له عساكر كقطع السحاب ، ومواكب كأمثال الفجاج ، كأن خفقان راياته طيران النسور ، وكأن حمل فرسانه كر العقبان ، يعيدون العمران خراباً ويتركون القرى وحشة ، فياويل إليا وسكانها كيف أذللهم للقتل ، وأسلط عليهم السبا ، وأعيد بعد لجب الأعراس صراخاً ، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب ، وبعد شرفات القصور مساكن السباع ، وبعد ضوء السرج وهج العجاج ، وبالعز الذب وبالنعمة العبودية وأبدلن نساءهم بعد الطيب التراب ، وبالمشي على الزرابي الخبب ، ولأجعلن أجسادهم زبلا للأرض ، وعظامهم ضاحية للشمس ، ولأدوسنهم بألوان العذاب ، ثم لآمرن السماء فتكون طبقاً من حديد ، والأرض سبيكة من نحاس ، فإن أمطرت لم تنبت الأرض ، وإن أنبتت شيئاً في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم ، ثم أحبسه في زمان الزرع وأرسله في زمان الحصاد ، فإن زرعوا في خلال ذلك شيئاً سلطت عليه الآفة ، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة ، فإن دعوني لم أجبهم ، وإن سألوا لم أعطهم ، وإن بكوا لم أرحمهم ، وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم . رواه ابن عساكر بهذا اللفظ .
وقال إسحاق بن بشر : أنبأنا إدريس ، عن وهب بن منبه ، قال : إن الله تعالى لما بعث أرمياً إلى بني إسرائيل ، وذلك حين عظمت الأحداث فيهم فعملوا بالمعاصي ، وقتلوا الأنبياء ، طمع بختنصر فيهم وقذف الله في قلبه وحدث نفسه بالمسير إليهم لما أراد الله أن ينتقم به منهم ، فأوحى الله إلى أرميا : إني مهلك بني غسرائيل ومنتقم منهم ، فقم على صخرة بيت المقدس ياتيك أمري ووحيي . فقام أرميا فشق ثيابه وجعل الرماد على رأسه وخر ساجداً وقال يا رب . . وددت لو أن أمي لم تلدني حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل فيكون خراب بيت المقدس وبوار بني إسرائيل من أجلي ، فقال له : ارفع رأسك . فرفع رأسه فبكى ثم قال : يا رب . . من تسلط عليهم ؟ فقال : عبدة النيران لا يخافون عقابي ، ولا يرجون ثوابي ، قم يا أرميا فاستمع وحيي أخبرك خبرك وخبر بني إسرائيل : من قبل أن أخلفك اخترتك ، ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك ، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك ، ومن قبل أن تبلغ نبأتك ، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك ولأمر عظيم اجتنبتك ، فقم من الملك تسدده وترشده .
فكان مع الملك يسدده ويأتيه الوحي من الله حتى عظمت الأحداث ، ونسوا ما نجاهم الله به من عدوهم سنحاريب وجنوده ، فأوحى الله إلى أرميا : قم فاقصص عليهم ما آمرك به ، وذكرهم نعمتي عليهم ، وعرفهم أحداثهم . فقال أرميا ك يا رب . . إني ضعيف إن لم تقوني ، عاجز إن لم تبلغني ، مخطئ إن لم تسددني ، مخذول إن لم تنصرني ، ذليل إن لم تعزني ، فقال الله تعالى : أولم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي ، وأن الخلق والأمر كله لي ، وأن القلوب والألسنة كلها بيدي فأقلبها كيف شئت فتطيعني ، فأنا الله الذي ليس شيء مثلي ، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي ، وأنه لا يخلص التوحيد ، ولم تتم القدرة إلا لي ، ولا يعلم ما عندي غيري ، وأنا الذي كلمت البحار ففهمت قولي ، وأمرتها ففعلت أمري ، وحددت عليها حدوداً فلا تعدو فلا تعدو حدي ، وتأتي بأموال كالجبال فإذا بلغت حدي ألبستها مذلة لطاعتي وخوفاً واعترافاً لأمري ، وإني معك ولن يصل إليك شيء معي ، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي فتستوجب بذلك أجر من اتبعك ، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً .
انطلق إلى قومك فقم فيهم وقل لهم : إن الله قد ذكركم بصلاح آبائكم فلذلك استبقاكم ، يا معشر أبناء الأنبياء ، وكيف وجد آباؤكم مغبة طاعتي وكيف وجدتم مغبة معصيتي ، وهل وجدوا أحداً عصاني فسعد بمعصيتي وهل عملوا أحداً أطاعني فشقي بطاعتي ؟ إن الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها ، وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة وتركوا الأمر الذي أكرمت به آباءهم ، وابتغوا الكرامة من غير وجهها . فأما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولاً يتعبدونهم ، ويعملون فيهم بغير كتاب كاملي حتى أجهلوهم أمري وأنسوهم ذكري وسنتي وغروهم عني ، فدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلى لي ، فهم يطيعونهم في معصيتي .
وأما ملوكهم وأمراؤهم فبطروا نعمتي ، وأمنوا مكري ، وغرتهم الدنيا حتى نبذوا كتاب كاملي ونسوا عهدي ، فهم يحفون كتاب كاملي ، ويفترون على رسلي جرأة منهم علي وغرة بي ، فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني ، هل ينبغي أن يكون لي شريك في ملكي ؟ وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي ؟ وهل ينبغي لي أن أخلق عباداً أجعلهم أرباباً من دوني ، أو آذن لأحد بالطاعة لأحد وهي لا تنبغي إلا لي ؟ !
وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون ، فينقادون للملوك فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني ، ويطيعونهم في معصيتي ، ويوفون لهم بالعود الناقضة لعهدي ، فهم جهلة بما يعلمون لا ينتفعون بشيء مما علموا من كتاب كاملي .
وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون ، يخوضون مع الخائضين يتمنون مثل نصري آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها ، ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك منهم بغير صدق منهم ولا تفكر ، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم وكيف كان جهدهم في أمري حين اغتر المغترون ، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم فصبروا وصدقوا حتى عز أمري وظهر ديني . فتأنيت هؤلاء القوم لعلهم يستحيون مني ويرجعون ، فتطولت عليهم وصفحت عنهم فأكثرت ومددت لهم في العمر وأعذرت لهم لعلهم يتذكرون . وكل ذلك أمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض وألبسهم العافية وأظهرهم على العدو ولا يزدادون إلا طغياناً وبعداً مني فحتى متى هذا ؟ أبي يسخرون أم بي يتحرشون أم إياي يخادعون أم علي يجترئون .
فإني أقسم بعزتي لأتيحن عليهم فتنة يتحير فيها الحليم ويضل فيها رأي ذوي الرأي وحكمة الحكيم ، ثم لأسلطن عليهم جباراً قاسياً عاتياً ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرأفة والرحمة وآليت أن يتبعه عدد وسواد مثل الليل المظلم ، له فيه عساكر مثل قطع السحاب ومواكب مثل العجاج ، وكأن خفيق راياته طيران النسور وحمل فرسانه كريد العقبان ، يعيدون العمران خراباً والقرى وحشاً ويعيشون في الأرض فساداً ويتبرون ما علو تتبيراً ، قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون ، ولا يرحمون ولا يبصرون ، ولا يسمعون ، يجولون في الأسواق باصوات مرتفعة مثل زئير الأسد تقشعر من هيبتها الجلود ، وتطيش من سمعها الأحلال بألسنة لا يفقهونها ، ووجوه ظاهر عليها المنكر لا يعرفونها فوعزتي لأعطلن بيوتهم من كتبي وقدسي ، ولأخلين مجالسهم من حديثها ودروس مفصلةها ، ولأوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري ، ويتهجدون فيها ويتعبدون لكسب الدنيا بالدين ، ويتفقهون فيها لغير الدين ، ويتعلمون فيها لغير العمل ، لأبدلن ملوكها بالعز الذل ، وبالأمن الخوف ، وبالغنى الفقر ، وبالنعمة الجوع ، وبطول العافية والرخاء ألوان البلاء ، وبلباس الديباج والحرير مدارع الوبر والعباء ، وبالأرواح الطيبة والأذهان جيف القتلى ، وبلباس التيجان أطواق الحديد والسلاسل والأعلال ، ثم لأعيدن فيهم بعد القصور الواسعة والحصون الحصينة الخراب ، وبعد البروج المشيدة مساكن السباع وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب ، وبعد ضوء السراج دخان الحريق ، وبعد الأنس الوحشة والقفار .
ثم لأبدلن نساءها بالأسورة الأغلال ، وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد ، وبألوان الطيب والأدهان النقع والغبار ، وبالمشي على الزرابي عبور الأسواق والأنهار ، والخبب إلى الليل في بطون الأسواق ، والخدور والستور الحسور عن الوجوه والسوق والأسفار والأرواح السموم ثم لأدوسنهم بأنواع العذاب حتى لو كان الكائن منهم في حالق لوصل ذلك إليه ، إني إنما أكرم من أكرمني ، وإنما أهين من هان عليه أمري . ثم لآمرن السماء خلال ذلك فلتكونن عليهم طبقاً من حديد ، ولآمرن الأرض فلتكون سبيكة من نحاس ، فلا سماء تمطر ، ولا أرض تنبت ، فإن أمطرت خلال ذلك شيئاً سلطت عليهم الآفة ، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة ، وإن دعوني لم أجبهم ، وإن سألوني لم أعطهم ، وإن بكوا لم أرحمهم ، وإن تضرعوا إلي صرفت وجهي عنهم ، وإن قالوا : اللهم أنت الذي ابتدأتنا وآباءنا من قبلنا برحمتك وكرامتك ، وذلك بأنك اخترتنا لنفسك وجعلت فينا نبوتك وكتاب كاملك ومساجدك ، ثم مكنت لنا في البلاد واستخلفتنا فيها وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغراً ، وحفظتنا وإياهم برحمتك كباراً فأنت أوفى المنعمين وإن غيرنا ، ولا تبدل وإن بدلنا وأن تتم فضلك ومنك وطولك وإحسانك . فإن قالوا ذلك قلت لهم : إني أبتدئ عبادي برحمتي ونعمتي ، فإن قبلوا أتممت ، وإن استزادوا زدت ، وإن شكروا ضاعفت ، وإن غيروا غيرت ، وإذا غيروا غضبت ، وإذا غضبت عذبت وليس يقوم شيء بغضبي .
قال كعب : فقال أرميا : بوجهك أصبحت أتعلم بين يديك ، وهل ينبغي ذلك لي وأنا أذل وأضعف من أن ينبغي لي أن أتكلم بين يديك ، ولكن برحمتك أبغيتني لهذا اليوم ، وليس أحد أحق أن يخاف هذا العذاب وهذا الوعيد مني بما رضيت به مني طولاً ، والإقامة في دار الخاطئين وهم يعصونك حولي بغير نكر ولا تغيير مني ، فإن تعذبني فبذنبي ، وإن ترحمني فذلك ظني بك .
ثم قال : يا رب . . سبحانك وبحمدك ، وتباركت ربنا وتعاليت ، أتهلك هذه القرية وما حولها وهي مساكن أنبيائك ومنزل وحيك ، يا رب . . سبحانك وبحمدك وتباركت ربنا وتعاليت لمخرب هذا المسجد ، وما حوله من المساجد ، ومن البيوت التي رفعت لذكرك يا رب . . سبحانك وبحمدك ، وتباركت وتعاليت لمقتل هذه الأمة ، وعذابك إياهم وهم من ولد إبراهيم خليلك ، وأمة موسى نجيك وقوم داود صفيك ، يا رب . . أي القرى تأمن عقوبتك بعد . وأي العباد يأمنون سطوتك بعد ولد خليلك إبراهيم ، وأمة نجيك موسى ، وقوم خليفتك داود ، تسلط عليهم عبدة النيران ؟ قال الله تعالى : يا اأرميا . . من عصاني فلا يستنكر نقمتي ، فإني إنما أكرمت هؤلاء القوم على طاعتي ، ولو أنهم عصوني لأنزلتهم دار العاصين ، إلا أن أتداركهم برحمتي .
قال أرميا : يا رب . . اتخذت إبراهيم خليلاً وحفظتنا به ، موسى قربته نجياً فنسألك أن تحفظنا ولا تتخطفنا ولا تسلط علينا عدونا . فأوحى الله إليه : يا أرميا . . إني قدستك في بطن أمك ، وأخرتك إلى هذا اليوم ، فلو أن قومك حفظوا اليتامى والأرامل والمساكين وابن السبيل ، لكنت الداعم لهم ، وكانوا عندي بمنزلة جنة ناعم شجرها ، طاهر ماؤها ، ولا يغور ماؤها ولا تبور ثمارها ولا تنقطع ، ولكن سأشكو إليك بني إسرائيل : إني كنت لهم بمنزلة الراعي الشفيق ، أجنبهم كل قحط وكل عسرة ، وأتبع بهم الخصب حتى صاروا كباشاً ينطح بعضها بعضاً ، فياويلهم ثم يا ويلهم ، إنما أكرم من أكرمني ، وأهين من هن عليه أمري ، إن من كان قبل هؤلاء من القرون يستخفون بمعصيتي ، وإن هؤلاء القوم يتبرعون بمعصيتي تبرعاً فيظهرونها في المساجد والأسواق ، وعلى رءوس الجبال وظلال الأشجار ، حتى عجت السماء إلي منهم ، وعجت الأرض والجبال نفرت منها الوجوش بأطراف الأرض وأقاصيها ، وفي كل ذلك لا ينتهون ولا ينتفعون بما علموا من الكتاب كامل .
قال : فلما بلغهم أرميا رسالة ربهم وسمعوا ما فيها من الوعيد والعذاب عصوه وكذبوه واتهموه وقالوا : كذبت وأعظمت على الله الفرية فتنزعم أن الله معطل أرضه ومساجده من كتاب كامله وعبادته وتوحيده ؟ فمن يعبده حين لا يبقى له في الأرض عابد ولا مسجد ولا كتاب كامل ؟ ! لقد أعظمت الفرية على الله واعتراك الجنون . فأخذوه وقيدوه وسجنوه ، فعند ذلك بعث الله عليهم بختنصر فأقبل يسير بجنوده حتى نزل بساحتهم ثم حاصرهم فكان كما قال تعالى :" فجاسوا خلال الديار " قال : فلما طال بهم الحصر نزلوا على حكمه ، ففتحوا الأبواب وتخللوا الأزفة وذلك قوله :" فجاسوا خلال الديار " وحكم فيهم حكم الجاهلية وبطش الجبارين ، فقتل منهم الثلث وسبي الثلث ، وترك الزمني والشيوخ والعجائز ، ثم وطئهم بالخيل وهدم بيت المقدس ، وساق الصبيان وأوقف النساء في الأسواق حاسرات ، وقتل المقاتلة وخرب الحصون وهدم المساجد وحرق التوراة ، وسأل عن دانيال الذي كان قد كتب له الكتاب كامل فوجدوه قد مات ، وأخرج أهل بيته الكتاب كامل إليه ، وكان فيهم دانيال بن حزقيل الأصغر ، وميشائيل وعزرائيل وميخائيل ، فأمضى لهم ذلك الكتاب كامل .
وكان دانيال بن حزقيل خلفاً من دانيال الأكبر ، ودخل بختنصر بجنوده بيت المقدس ووطئ الشام كلها وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، فلما فرغ منها انصرف راجعاً وحمل الأموال التي كانت بها ، وساق السبايا فبلغ معه عدة صبيانهم من أبناء الأحبار والملوك تسعين ألف غلام ، وقذف الكناسات في بيت المقدس وذبح فيه الخنازير ، وكان الغلمان سبعة آلاف غلام من بيت داود ، وأحد عشر ألفاً من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين ، وثمانية آلاف من سبط ايشي بن يعقوب ، وأربعة عشر ألفاً من سبط زبالون ونفتالي ابني يعقوب ، وأربعة عشر ألفاً من سبط دان بن يعقوب ، وثمانية آلاف من سبط روبيل ولاوي ، واثني عشر ألفاً من سائر بني إسرائيل . وانطلق حتى قدم أرض بابل .
قال إسحاق بن بشر : قال وهب بن منبه : فلما فعل ما فعل قيل له : كان لهم صاحب يحذرهم ما أصابهم ويصفك وخبرك لهم ويخبرهم أنك تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم وتهدم مساجدهم وتحرق كنائسهم ، فكذبوه واتهموه وضربوه وقيدوه وحبسوه . فأمر بختنصر فأخرج أرميا من السجن فقال له : أكنت تحذر هؤلاء القوم ما أصابهم ؟ قال : نعم . قال : فإني علمت ذلك ، قال : أرسلني الله إليهم فكذبوني . قال : كذبوك وضربوك وسجنوك ؟ قال : نعم . قال : بئس القوم قوم كذبوا نبيهم وكذبوا رسالة ربهم ، فهل لك أن تحلق بي فأكرمك وأواسيك ، وإن أحببت أن تقيم في بلادك فقد أمنتك . قال له أرميا : إني لم أزل في أمان الله منذ كنت لم أخرج منه ساعة قط ، ولو أن بني إسرائيل لم يخرجوا منه لم يخافوك ولا غيرك ولم يكن لك عليهم سلطان . فلما سمع بختنصر هذا القول منه تركه فأقام أرميا مكانه بأرض إيليا .
وهذا سياق غريب ، وفيه حكم ومواعظ وأشياء مليحة ، وفيه من جهة التعريف غرابة .
وقال هشام بن محمد بن السائب الكلبي : كان بختنصر أصفهبذا لما بين الأهواز إلى الروم للملك على الفرس وهو لهراسب ، وكان قد بني مدينة بلخ التي تلقب بالخنساء ، وقاتل الترك وألجأهم إلى أضيق الأماكن وبعث بختنصر لقتال بني إسرائيل بالشام فلما قدم الشام صالحه أهل دمشق ، وقد قيل إن الذي بعث بختنصر إنما هو بهمن ملك الفرس بعد بشتاسب بن لهراسب ، وذلك لتعدي بني إسرائيل على رسله إليهم .
وقد روى ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، أن بختنصر لما قدم دمشق وجد بها دماً يغلي على كبا - يعني القمامة - فسألهم : ما هذا الدم ؟ فقالوا : أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر . قال : فقتل على ذلك سبعين الفاً من المسلمين وغيرهم فسكن .
وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب ، وقد تقدم من كلام الحافظ ابن عساكر ما يدل على أن هذا دم يحيى بن زكريا ، وهذا لا يصح لأن يحيى بن زكريا بعد بختنصر بمدة ، والظاهر أن هذا دم نبي متقدم أو دم لبعض الصالحين أو لمن شاء الله ممن الله أعلم به .
قال هشام بن الكلبي : قدم بختنصر بيت المقدس فصالحه ملكها وكان من آل داود وصانعه عن بني إسرائيل وأخذ منه بختنصر رهائن ورجع ، فلما بلغ طبرية بلغه أن بين إسرائيل ثاروا على ملكهم فقتلوه لأجل أنه صالحهه ، فضرب رقاب من معه من الرهائن ورجع إليهم فأخذ المدينة عنوة ، وقتل المقاتلة وسبي الذرية .
قال : وبلغنا أنه وجد في السجن أرميا النبي فأخرجه وقص عليه ما كان من أمره إياهم وتحذيره لهم عن ذلك فكذبوه وسجنوه فقال بختنصر : بئس القوم قوم عصوا رسول الله وخلى سبيله وأحسن إليه وأجمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل فقالوا : إنا قد أسأنا وظلمنا ونحن نتوب إلى الله عز وجل مما صنعنا ، فادع الله أن يقبل توبتنا ، فدعا ربه فأوحى الله إليه أنه غير فاعل ، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة . فأخبرهم ما أمره الله تعالى به . فقالوا : كيف نقيم بهذه البلدة وقد خربت وقد غضب الله على أهلها ؟ فأبوا أن يقيموا .
قال ابن الكلبي : ومن ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل في البلاد فنزلت طائفة منهم الحجاز وطائفة يثرب وطائفة وادي القرى ، وذهبت شرذمة منهم إلى مصر ، فتب بختنصر إلى ملكها يطلب منه من شرد منهم إليه فأبى عليه ، فركب في جيشه فقاتله وقهره وغلبه وسبى ذراريهم ثم ركب إلى بلاد المغرب حتى بلغ أقصى تلك الناحية . قال : ثم انصرف بسبي كثير من أرض المغرب ومصر وأهل بيت المقدس وأرض فلسطين والأردن وفي السبي دانيال .
قلت : والظاهر أنه دانيال بن حزقيل الأصغر لا الأكبر . على ما ذكره وهب بن منبه . والله أعلم .





©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©