الحلقة الأولى
سير الصالحين معالم يهتدى بها ، ومنارات يقتدى بآثارها ، والأزمان التي يعيش فيها الإنسان مهما كانت نماذجها الرائعة إلا أنها في حاجة إلى قَبَسٍ خاص من نماذج ذات طراز رائع ، فكيف إذا كانت النماذج الرائعة لا يكاد يراها الإنسان ، أو قل يتعب في البحث عنها في مثل هذه الأزمان ... إنَّ دراسة المادة التاريخ هي الكفيلة بدمج القدوة في قلب الإنسان وجعلها تترعرع حية في حياته وإن مات أصحابها وتوارت آثارهم في طيات القبور ؛ لهذا الهدف وأمثاله أحببت أن أعلّق نفسي بآثار الكرام في تلك الأزمان ، وجعلت لقلمي مساحة يحاول فيها تكريس مفاهيم القدوة في سير كُتّاب المادة التاريخ بالأمس ، علّ قلبي أو قلب من يقرأ هذه الأحرف يطوف بها متأملاً ليجد فيها بعض منارات الطريق . والله المستعان ! لقد جال قلمي بالأمس في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدءاً بالميلاد اليوم الذي أنار في المدينة كل شيء ، وانتهاءً باليوم الذي انطفأ من المدينة كل شيء ، وكتبت هناك ما يمكن أن يملأ قلب كل متأسٍ بنبيه صلى الله عليه وسلم ، واليوم أحاول جاهداً أن أتنفّس في سير المصلحين من بعد الأنبياء ، بدءاً بعلم من أعلام الإسلام ، سيرة أقرب رجل إلى سير الأنبياء ، ثاني رجل يطرق باب الجنة يوم القيامة ، ويدخل من أبوابها الثمانية ، فيا لله أي قلم هذا الذي يتطاول ليكتب معالم من معالم هذه النماذج الرائعة ؟!

أبو بكر : هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو ، ويكنى بأبي بكر ، ولقّب رضي الله تعالى عنه بالعتيق قال صلى الله عليه وسلم : أنت عتيق الله من النار ، وقيل إنما سمي لذلك لجمال وجهه ، وقيل لأنه كان قديماً في الخير ، ولقب بالصديق ، جاء ذلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد أحداً وعليه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم قال : أثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان . رواه البخاري . وإنما لُقّب بهذا لكثرة تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم . وإجماع الأمة قائم على تسميته بالصديق ، ولقّب كذلك بالصاحب ، قال تعالى : " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " قال الحافظ : المقصود هنا أبو بكر بغير منازع . اهـ وثمة درس : أن الأصل في الألقاب الحميدة والصفات الحسنة في أعراف الناس ألاّ تكون إلا لأهلها ، وكذلك هي في ميزان الدار الآخرة ، يأبى الله تعالى أن تكون الشهرة الصالحة إلا في حق أهلها الجادين في طلبها . ولا أعرف إلى مادة التاريخ هذه الأسطر أنَّ الناس أجمعوا على وصفٍ صالح لرجل يدب على الأرض إلا وله منه نصيب ! وهذه شهادات الناس لا يمكن أن تلتقي في شخصية رجل إلا وقد عبّ منها حتى ارتوى وخرج يسقيها الناس أو يسقيهم بعض سلسبيلها الرائع . وإذا رضي الله تعالى عن إنسان فلا تسل كم هي الألسن المطبقة على حبه وذكره والشغف به وهل ذلك إلا بعض آثار الحب ؟! فاللهم يارب دثّرنا بهذه الآثار ، واكتب لنا منها أوفر الحظ والنصيب .

ولد أبو بكر بعد عام الفيل بالاتفاق ، والخلاف في الزمن الذي ولدفيه بعد عام الفيل ما بين سنتين وثلاث ، وثمة صفات خَلْقية يعرف بها هذا العلم كونه أبيضاً ، نحيف البدن ، خفيف اللحم ، حسن القامة ، خفيف العارضين ، أجنأ ـ أي ميل في ظهره ـ لا يستمسك إزاره على بطنه ، غائر العينين ، دقيق الساقين ، يخضب لحيته وشيبه بالحناء والكتم . ولا مزية في المادة التاريخ لطول أو قصر ، كلا ! ولو كانت هذه معالم فارقة في أوصاف الرجال لما كانت من أوصاف المنافقين المفلسين ، وقد قال ربك فيهم " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم " ولولا أنني أريد أن أصف لك رؤيته لتعانق الأشواق بلقائه يومئذ لما كتبت فيها حرفاً واحداً ، والله المستعان
تزوج من أربع نسوة أنجبن له ثلاثة ذكور وثلاث إناث : عبد الرحمن ، وعبد الله ، ومحمد ، وأسماء ، وعائشة ، وأم كلثوم ، وليس من الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده وأدركوا النبي وأدركه بنو أولاده إلا أبا بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه .

كان في الجاهلية : من وجهاء قريش وأشرافهم وأحد رؤسائهم ومن أهم ما اشتهر به : العلم بالأنساب ، ومع ذلك ما أُثر عنه أنه عاب نسباً لأحد ، أو ذكر مثلباً لقوم ، وقد قال السيوطي رحمه الله تعالى : رأيت بخط الذهبي ـ رحمه الله ـ من كان فرد زمانه في فنه ... أبو بكر في النسب . اهـ وهؤلاء هم نجباء الأمة ، وهل رأيت في حياتك رجلاً تشرئبُّ إليه الأعناق لا يملك من زاد العلم شيئاً ؟! إن مساحة العلم أكبر مساحة تتقاذف فيها همم الرجال ، وعلى قدر غَرْفِهم من تلك المساحة الشاسعة تتوسّع لهم صدور الأمة حباً وإجلالاً وتكريماً ! فكيف إذا كانت هذه المساحة من العلم دقيقة لدرجة أنها لا تُعرف إلا عند أمثال أبي بكر ، وكيف إذا كان صاحبها بمثل هذا الإتقان وتلك الجودة التي أصبح بها فرداً في زمانه .




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©