موضوع مقدم من منتديات ديزاد
منتديات ديزاد باتنة
( الحياة اللندنية)



أشرف الفجر، لكن الروح كانت لا تزال مبللة تنزف بين فكي النهاية. النهاية شيء جلل قد لا يستسيغه الإنسان ولو كان ذا حكمة، ولو كان ذا أيمان بأحكام القدر. العودة إلى الوراء أمر دونه المستحيل. النظر إلى الخلف بذاته هو التواء في النفس مخيف، محزن، لا يحتمل. المضي قدما في الحياة أضحى دربا مرهقا يفتقر الأنيس، ينقصه الأنس. عشرة طويلة، قوية، عميقة، أعطت لحياتي بعدا واحدا. كانت ثمة حيرة تمتلكني وأفق من الفراغ يمتد أبعد من مسافات الرؤية الممكنة. والليل ؟

الليل وحش موحش. الليل جردني من كل نزعات التمويه المكتسبة أو الموروثة. عراني حتى زمن الطفولة الأول. عرى روحي حتى آخر رمق من التملق على أحوال الزمن المتقلب على كف لا يستقر على حال. الليل كان عدو ثقيل. تمنيت عليه أن يرحل، أن يتركني على انفراد مع أحزاني الطازجة. أعرف أن الأيام تخفف من وطأة الحزن؛ أعلم أنها تشترط علينا أن نعيشه، وأن ندونه في سجل الذاكرة الأبدية. الليل المتعالي يستكثر علي هذا، يستنكره علي، ويجول روحي في جزائر العراة. هناك، على الشواطئ المسكونة بألف شيطان، يمزق آخر وريقات الأمل عن جسد أسيرته ويعرضها على ناس بلا أرواح، على أرواح بلا ناس. أنها خلوة الليل القاسية مع النفس الميتمة للتو.

الفجر تأخر في ذلك اليوم الموصوم بعار النهاية المأساوية لمجد من الحب، لحب مجيد. تحالف مع الليل ضدي، أنا المخلوق المصروع أمام جحافل الماضي وقد أوصدت الأبواب. أقول قولي هذا ولا أقصد بعث مشاعر الشفقة أبد. على العكس، لا تشفقوا على رجل يتسكع في أروقة الحزن، أشفقوا واطلبوا من الله الشفقة على رجل لم يعرف الحزن إلا في وجوه الآخرين، أو في عيونهم أو في دموعهم.






تأخر الفجر كثيرا، لكنه أتى. كان محملا بصقيع الشمال. هكذا أكدت المذيعة لأحوال الجو في المساء السابق. كانت صادقة. لكنها، على ما يبدو، لم تعرف بعد غير الصقيع النافث من عباب الجليد والثلج. صقيع الوحدة بعد إدمان، صقيع الكارثة بعد الخلود إلى الأمان، هل عرفته ؟ هل جربته ؟

في ساعة الفجر الأولى نهضت من فراشي البارد. فراشي كان رطبا فكأنني أمضيت الوقت تحت سماء مشبعة بندى كثيف. المريض يتعرق، إنما المفارق ينضح عرقا ولا يكتفي؛ يستجير بالدموع. كنت حائرا من أمري ومن أمر يومي. ماذا أفعل بالوقت المشرع أمام الرؤية كنصب حجري بلا وعود، بلا حياة ؟ بل ماذا يمكن لامرئ كبل الوجد والحنين إرادته أن يفعل في متسع من فراغ لا يملأه حلم ؟

نظرت عبر النافذة. لا نرى دائما ما نشتهي، بل قلما نختار ما نرى. سجايا العيون تسجل وقع الخطوات في دروب الحركة. الرابية الناهضة قليلا، على الطرف الآخر من النهر، هي التي فتحت ذراعيها لتحتضن رؤيتي. هناك، ذات مرة، وقفت مع منعشة الفؤاد، ورسمنا معا خطا في عالم الأمل. كنا يومها نكتب قدرا مشتركا في سجل نظيف. كنا يومها قليلي الأيمان بغدر الأيام وتقلبات مزاج الزمن. لا يضر. أليس الحب هو الإنعتاق من الضرورة ؟ أليس الحب هو ممارسة اللحظة ؟ أليس الحب هو النشوة التي تأخذ الحلم إلى البعيد الممكن؛ وإلى البعيد غير الممكن ؟ أليس الحب هو فن تلوين الليل بلون الذكرى الخالدة ؟

هو كل هذا. هو غير هذا أيضا. هو حي ننكر عليه حالة الضعف، حالة الوهن، حالة المرض، حالة الموت. الحب يجب أن يعيش أكثر من صاحبه بقليل. هكذا يقول المحبون. لكن الأرواح قد تموت قبل الجسد. العكس ليس صحيح؛ الجسد لا يموت قبل الروح أبدا. لماذا إذن نستنكر على الحب قدره السيئ بينما نهيم في قدره ذي الرونق الإلهي؟

ذات مرة، فوق الرابية تلك، على مقربة من أشجار السنديان الشامخة، المغرورة حتى، وقفت مع نديمة الروح. وقفنا طويلا. كنا نشعر أننا جمدنا الزمن، أننا جمدنا العالم. عقارب الساعة آلة همجية تدوس على اللحظة النادرة، السعيدة، وتحولها إلى بقايا محمية، معلبة، مرصوفة على رفوف الذاكرة. الأطلال قد تفيد في السلوى، قد تفيد للبكاء. الأطلال تشهد على موت معزوفة الحب الصاخبة، وعلى اندثار الحياة دون معالمها. كان الوقت عصرا. كان الوقت شيئا لا ندركه، شيئا لا يدركنا. كان الحنان يتمرد على قوالب الطفولة، على معابد المراهقة، ويحثنا على اختراق اللامعقول المعقول. كانت القبلات عملاقة، مخصبة، حارة، تتوالد من بعضها البعض. حرقنا كل المصائب ببسمات سخرية يعلوها طلاء من الوداعة. كلا، من البراءة. قالت لي:

- أخاف منك، لحظة الحب لحظة جنون.

آه لو كنت من المجربين. آه لو كنت أدري. بداية الحب ونهايته شريكان يتقاسمان العقل. آه لو كنت أعلم أن الحب صعود في إطار مغامرة خطيرة. الصعود يشبع الغرور؛ الصعود يكون مشمولا بعناية الإله والحظ السعيد. السقوط صعب. السقوط من قمم الحب لا يصل نهايته أبدا؛ يبقي المرء معلقا في الفراغ . الوادي السحيق مفتوح كفم حيوان يصرخ جوعه. الخوف من النهاية يُبقي المحب معلقا إلى نجوم السماء القريبة من الفجر. التعلق في الفراغ فيه بعض أنس يعرفه المحبون المقتولون بالمفاجأة، بالنهاية.

في ذاك الفجر، حيث الحنين والنقمة تحشرانني في غلظة من أمري، سحبت أخر مدخراتي من الشجاعة. مضيت بغتة إلى المجرور والدمعة المعارضة تثور في عينيَّ. سحبته. العجيب أن يدي لم تكن ترتجف، لم تكن تتردد، لم تكن تحتج، بالرغم من أنني كنت مشرفا على اختراق المحظور. يدي فضت غطاء العلبة بخشونة، برعونة، وتناولت من بين الصور 2014 صور 2014تين. اختطفت نظرة أو نظرتين سريعتين منهما. كانت الروح تتمزق. هاأنا مجددا أمام الحبيب. الحبيب صور 2014ة. رؤية الحبيب المجحف يعيدني إلى أشد حالة الضعف، إلى فقدان الإرادة. لا أريد أن أراه فيعيدني إلى بداية المشوار، إلى نقطة الافتراق. لا أحب أن أمشي في درب مرتين. لا أستطيع أن أمشي في درب الفراق مرة أخرى أبدا. لكن النور يلفت النظر. صور 2014ة الحبيب حضنا من النور والدفء يجذبني من مسافات النسيان، من مسافات الحرمان، من دهاليز السفر. لكني أتحايل. أنا إنسان، أنا أتحايل على مواطن الألم في حياة تنذر بالكثير من التقلبات؛ وبكثير من الألم أيضا. أغمضت عينيَّ المتعبتين من حمل الليل ومن تحامل الحبيب. دسست الصور 2014تين في جيبي وتنهدت من الأعماق. يكون المرء بحاجة إلى نفس طويل، عميق، عندما يصبح الصراخ نوعا من الأمل، نوعا من المستحيل، نوعا من غصة تخنق لكن لا تميت.

خرجت سريعا إلى الشارع. الحبيب المعلق في الفراغ يتمسك بشعر رأسه، ويأمل. الحب إدمان. عودة المدمنين إلى إدمانهم يحتاج همسة، أو هزة، أو حتى لقاء. هربت من تأنيب الماضي المتعصب للحظة الحلوة، من عصا الذكرى، من عنف الخسارة، من مطالب تشحن صدى اللحظات الحلوة إلى النفس المصلوبة على جدار الصمت، على جدار الموت. انتابني الخوف من أن أعيد الصور 2014تين إلى مكانهما. من لديه الجرأة في مواجهة جاهزة ميت يحيا من جديد ؟ ألم يخبرني الليل أن الحبيب قد مات ؟ ألم يقل لي أن الحبيب الذي فارق هو حبيب قد مات ؟ ألم يؤكد لي الليل أن دفن الحبيب فيه من الفضائل فضيلة النسيان ؟ بيد أنني رجلا معلق في الفراغ. الهروب يفيد في الحسم. ابتعدت عن البيت. مضيت نحو الرابية التي شهدت ولادة عهود ووعود لا تحصى وموت حب واحد. أحسست أن العزيمة تنهض من عباب الكساح المدمن وتشتد قوة. التسليم بالمصيبة نصف الطريق إلى هضمها. وقفت في ذات المكان الذي تشرف بلقاءاتنا العديدة وبعهدنا الأول. أتذكر أنها عضت يدي حتى نز الدم منها. أتذكر أنني عضضت يدها حتى نز الدم منها. وضعنا الجرح على الجرح، وقلنا عهدنا أن لا نفترق إلا بالموت. وجاءت قبلاتنا اللاحقة ترانيم ساحرة لطقوس الحب الساخن.

وقفت في ذات المكان الذي يشغل حيزا واسعا في كياني. أخرجت الصور 2014تين بقلق هادئ. أغمضت العينيين بهدف استجماع القوة ورصد الإرادة. نظرت إليهما أخيرا ملء العينين، بحجم الأشواق في النفس. تأملتهما بحزن لا ضابط له. هذه المرة كنت أكثر جرأة، وأكثر إصرارا ربما، فأطلت التبلق إليهما. يبدو أن التسليم بالنهاية ينير الوجدان ويجعلنا نقف على أقدامنا، على بقاياه. وداع الميت يحتاج وقفة ونظرة متميزة بالصبر. صور 2014ة أجمل من صور 2014ة والشخص ذاته. هي الصدفة ولا شك. هو حسن الحظ أيضا. حملت الصور 2014ة الجميلة على كتفي، وترنحت في السير نحو أشجار السنديان. كان الحزن، في أثناء ذلك، يتوسع في دائرة روحي ويكاد أن يبلغ مبالغ خطيرة. لكن من يحزن أكثر مما يحتاج ؟ من يحزن وفق أرادته وكيله ؟ الحزن يأتي بقدر المصاب.

وصلت إلى شجرة السنديان الأكبر، الأعتق، الأجمل. كانت الشمس قد أشرقت، لكن الصبح لازال باردا. كانت الرؤية واضحة في الأفق فكأنما السماء أمطرت حتى فرغت. الدموع كانت تنهمر من عينيَّ في الحقيقة، فكانت تجلي النفس وتشدها إلى معالم الصفاء . البكاء يطهر الروح. تطهير الروح يشحذ الرؤية وينقي الجو. أنزلت الصور 2014ة عن كتفي. تأنيت ما استطعت بالفعل المدعم بالخشية وبالخشوع. وضعتها على الأرض، على مقربة من جذع الشجرة، ورحت أحفر لها قبرا. قبر الحبيب يجب أن يكون عميقا، على الأقل بعمق مقامه في النفس. الطبيعة كانت صامتة كصور 2014ة الحبيب الميت الملقاة جانبا. حتى النهر القريب بدا كمن كتم هديره. الصمت أشتد إلى حدود مهيبة لا تطاق، وذلك حين وقفت عند رأس الصور 2014ة وتوجهت إلى وجه الله طالبا الرحمة للميت. استغفرت لها حتى بح صوتي ثم أنزلتها إلى المثوى الأخير. نثرت عليها التراب والرحمة والدموع ساعة أو يزيد. فعلت ذلك ببطء، فعلت ذلك بثبات كنت أظن أنه قد خرج من طباعي. نهض التراب فوقها. أضحى قبرا بفضل حزمة من الورود القريبة وحجر مسطح نصبته ناحية الرأس وكتبت عليه:

الحبيب صور 2014ة

موت الحبيب موت صور 2014ة

دفن الميت نهاية الحزن

رحمك الله كم كنت مشرقا، كم أشرقت في النفس



في طريق العودة جلست على ضفة النهر. غسلت اليدين وغسلت الوجه. كانت الشمس قد ارتفعت مزيدا وصارت أكثر نورا وأشد دفئا. الناس خرجت من البيوت، ودبت الحركة في الطبيعة. أخرجت الصور 2014ة الأخرى من جيبي. صور 2014 الشخص ما شئت، فلن تكون صور 2014ة مثل صور 2014ة. الصور 2014 الأقل جمالا يجب أن تمزق. مزقتها بلا تأنيب ضمير، بلا تردد. رميت أشلاءها في النهر وليأخذها إلى البعيد، إلى الضياع الأبدي. يكفي أن تموت صور 2014ة الحبيب لنرمي بقاياه في النهر. بدا لي أن دفن صور 2014ة الحبيب هو دون سواه نهاية الحب، وهو دون غيره نهاية الحزن. وعلى كل، شعرت، وأنا إلى جانب النهر، أن النشوة تنتعش في الصدر، وأن إرادة الحياة تنهض من فراشها، من مرضها، من وهمها الكبير.

موضوع مقدم من منتديات ديزاد
منتديات ديزاد باتنة




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©