الحمد لله وبعد،
فإنه قد استوقفني تصحيح نمذجي مفصل الإمام ابن القيم لإسناد حديث العابد والرمانة في كتاب كامله شفاء العليل ص114، ونص عبارة ابن القيم: وفي صحيح الحاكم حديث صاحب الرمانة ... رواه من طريق يحيى بن بكير حدثنا الليث بن سعد عن سليمان بن هرم ...... والإسناد صحيح، ومعناه صحيح لا ريب فيه، فقد صح عنه (ص) أنه قال :« لن ينجو أحد منكم بعمله » وفي لفظ :« لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال :« ولا أنا الا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» .اهـ
فشرعت في البحث عن هذا الحديث وكلام العلماء فيه .
والحديث أخرجه الحكيم الترمذي ح51، 52، والخرائطي في فضيلة الشكر ح59 والحاكم في المستدرك ج 4 ص 278 ح7637 ، وتمام في الفوائد (الروض 5/57) البيهقي في الشعب وابن الجوزي في المنتظم ، كلهم من طريق سليمان بن هرم القرشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال :
خرج علينا النبي (ص) فقال :« خرج من عندي خليلي جبريل آنفا فقال يا محمد والذي بعثك بالحق إن لله عبدا من عبيده عبد الله تعالى خمس مائة سنة على رأس جبل في البحر عرضه وطوله ثلاثون ذراعا في ثلاثين ذراعا والبحر محيط به أربعة آلاف فرسخ من كل ناحية وأخرج الله تعالى له عينا عذبة بعرض الأصبع تبض بماء عذب فتستنقع في أسفل الجبل وشجرة رمان تخرج له كل ليلة رمانة فتغذيه يومه فإذا أمسى نزل فأصاب من الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها ثم قام لصلاته فسأل ربه عز وجل عند وقت الأجل أن يقبضه ساجدا وأن لا يجعل للأرض ولا لشيء يفسده عليه سبيلا حتى بعثه وهو ساجد قال ففعل فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا فنجد له في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله عز وجل فيقول له الرب أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول رب بل بعملي فيقول الرب أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول يا رب بل بعملي فيقول الرب أدخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول رب بل بعملي فيقول الله عز وجل للملائكة قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمس مائة سنة وبقيت نعمة الجسد فضلا عليه فيقول أدخلوا عبدي النار قال فيجر إلى النار فينادي رب برحمتك أدخلني الجنة فيقول ردوه فيوقف بين يديه فيقول يا عبدي من خلقك ولم تك شيئا فيقول أنت يا رب فيقول كان ذلك من قبلك أو برحمتي فيقول بل برحمتك فيقول من قواك لعبادة خمس مائة عام فيقول أنت يا رب فيقول من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح وأخرج لك كل ليلة رمانة وإنما تخرج مرة في السنة وسألتني أن أقبضك ساجدا ففعلت ذلك بك فيقول أنت يا رب فقال الله عز وجل فذلك برحمتي وبرحمتي أدخلك الجنة أدخلوا عبدي الجنة فنعم العبد كنت يا عبدي فيدخله الله الجنة قال جبريل عليه السلام إنما الأشياء برحمة الله تعالى يا محمد » . لفظ الحاكم .
قال الحاكم –وقد رواه من طريق الليث عن سليمان-: هذا حديث صحيح الإسناد فإن سليمان بن هرم العابد من زهاد أهل الشام، والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين .اهـ
وتعقبه الذهبي بقوله : لا والله ، وسليمان بن هرم غير معتمد .اهـ
وقال في الميزان بعد أن نقل الحديث من المستدرك: قلت لم يصح هذا .اهـ
وسليمان بن هرم هذا سكت عنه ابن أبي حاتم في الجرح، وذكره العقيلي في الضعفاء وقال : مجهول في الرواية، حديثه غير محفوظ ... ثم ساق له حديث الرمانة .
ونقل الذهبي عن الأزدي قوله: لا يصح حديثه .
والحديث ذكره المنذري في الترغيب، ولم يمرضه، ولا تعقب تصحيح نمذجي مفصل الحاكم بعد ما نقله .
وذكره ابن رجب في جامع العلوم، ثم شفعه بكلام العقيلي .
والحديث مخرج في السلسلة الضعيفة للشيخ الألباني 3/330 .
وأما قول الحاكم : -: هذا حديث صحيح الإسناد فإن سليمان بن هرم العابد من زهاد أهل الشام، والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين .اهـ
فإن الحاكم نفسه لم يعتمد هذا قبل نحو بضع وعشرين صفحة فقط من حديث ابن هرم في نفس المجلد من مستدركه، حيث روى حديثاً من طريق الليث بن سعد عن إسحاق بن بزرج...، ثم قال: لولا جهالة إسحاق بن بزرج لحكمت للحديث بالصحة !.اهـ
إضافة إلى أن أبا حاتم قد حكم بالجهالة على جماعة من شيوخ الليث، ومنهم :
سهل بن ثعلبة المصري، وشداد بن الحارث، ومحمد بن سعيد الأموي، ويحيى بن عبد الواحد الثقفي . [الجرح : ج 4 ص 195، ج 4 ص 331، ج 7 ص 264، ج 9 ص 171] .
ثم إن الحاكم استشهد لحديث الرمانة بما أخرجه من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال قال رسول الله (ص) :« من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ووجبت له الجنة ومن قال سبحان الله وبحمده مائة كتب الله له ألف حسنة وأربعا وعشرين حسنة » قالوا يا رسول الله إذا لا يهلك منا أحد قال :« بلى إن أحدكم ليجيء بالحسنات لو وضعت على جبل أثقلته ثم تجيء النعم فتذهب بتلك ثم يتطاول الرب بعد ذلك برحمته » .
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد شاهد لحديث سليمان بن هرم ولم يخرجاه .اهـ
وسكت عنه الذهبي، وفي إسناده جمع من الرواة، قال الشيخ الألباني: لم أعرفهم، ومن المحتمل أن يكون وقع فيهم تحريف أو تصحيف، .... .اهـ حاشية ضعيف الترغيب 1/468 .
على أن مراد الحاكم بالاستشهاد هنا هو للمعنى العام الذي دلت عليه القصة، لا لخصوص ثبوتها .
والخلاصة، أن الحديث لا يصح لجهالة ابن هرم القرشي، ويزداد الأمر سوءً لتفرده بالخبر .
وأما تصحيح نمذجي مفصل ابن القيم لهذا الحديث فلعل اهتمامه كان - بشكل أكبر -منصباً على معنى ما دلت عليه القصة، مما لم يتح له الفرصة للتحقق من حال إسناده، فالظاهر أن حكمه على الحديث إنما جاء عرضاً، بمعنى أنه لم يكن موجهاً كلامه لبحث درجة الحديث، والفحص عن رواته وعلله، ولذا فيجب التفريق بين قوة حكم الناقد على الخبر عندما يأتي في كلام له عارض، وبين حكمه عليه قصداً في بحث مستقل، كإجابة سائل، أو استخراج حكم مبني على درجة الخبر .
وعند تعارض الحكمين فلا شك أنه يقدم حكمه في الثاني على الأول .
والله أعلم .




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©