المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقالات هامة لقسم 3 ادب وفلسفة



loulou ange
11-08-2013, بتوقيت غرينيتش 09:29 AM
هل يشكل الشعور مجمل الحياة النفسية عند الإنسان ؟
الطريقة الجدلية
المقدمة : يكاد يجمع علماء النفس في تعاريفهم للشعور على انه إدراك المرء لذاته أو هو حس الفكر لأحواله وأفعاله ' الحدس معرفة مباشرة ) وعليه يكون الشعور أساس المعرفة الذاتية . ومن ثمة فهل يمكن اعتماد الإنسان على شعوره وحده في إدراك كل ما يجول في حياته النفسية ؟ بمعنى آخر هل الشعور يصاحب كل ظواهر النفس ؟
التحليل :القضية الشعور يشكل مجمل الحياة النفسية ( الشعور أساس الأحوال النفسية).
الحجة : يذهب بعض الفلاسفة أصحاب النظرية الكلاسيكية ( التقليدية ) إلى أن الحياة النفسية في مجملها تقوم على أساس الشعور وعلى رأس هؤلاء " ديكارت " الذي اتبع منهج الشك الذي يشمل كل شيء إلا البداية الأصلية غير المشروطة في المعرفة والتي حددها ديكارت بـ" أنا أفكر إذن أنا موجود "وهو ما يعرف بالكوجيتو الديكارتي حيث سلم بوجود التفكير و بما أن الإنسان لا ينقطع عن التفكير فهو يشعر بكل ما يحدث على مستوى النفس وبما أن الشعور حدس والحدس معرفة مباشرة لا تخطئ فهو ينقل للفكر كل ما تعيشه النفس ومن ثمة لا وجود لحياة نفسية لا شعورية لذلك يرى أن كل ما هو نفسي يرادف ما هو شعوري . وهناك آخرون ممن يرون ذلك أمثال " ستيكال " أو " ابن سينا " في الفكر الإسلامي حيث يقول : " الشعور بالذات لا يتوقف أبدا " وهكذا ساد الاعتقاد قديما أن الشعور أساس الحياة النفسية .
النقد : لكن المتأمل في حياة الإنسان يكشف أنه لا يعيش كل لحظات حياته في حالة واعية بل تصدر منه سلوكات لا يشعر بها إلا بعد فواتها أو تنبيهه إليها مثل زلات القلم فلتات اللسان ... و هذا يدل على وجود حياة لاشعورية ..
النقيض : الشعور لا يشكل مجمل الحياة النفسية عند الإنسان (اكتشاف اللاشعور)
الحجة : اللاشعور هو مجموعة الحوادث النفسية المكبوتة التي تؤثر في النفس دون الشعور بها ويعتبر فرويد مكتشف اللاشعور ولو أن بوادر هذا الاكتشاف كانت موجودة قبله مع " ليبتز " " 1646-1716 " الذي حاول إثبات فكرة اللاشعور بالأدلة العقلية حيث قال : " لدينا في كل لحظة عدد لا نهاية له من الادراكات التي لا تأمل فيها ولا نظر " ثم جاء دور الأطباء ومنهم " برنهايم " (1837-1919) و " شاركو " ( 1825-1913 ) من خلال معالجة مرض الهستيريا ( اضطرابات عقلية ونفسية دون وجود خلل عضوي ) و فكرة التنويم المغناطيسي الأمر الذي هدى " فرويد " وبعد وقوفه على تجارب " بروير " (1842-1925) إلى اكتشاف اللاشعور وهذا يعني أن هناك جانبا في حياتنا توجد فيه أسرار وعقد لا يسمع لها بالخروج في حالة شعور , و من ثمة كشف عن نظريته في التحليل النفسي القائمة على التداعي الحر .
النقد : لكن اللاشعور حتى و إن أصبح حقيقة لا تنكر فإن الحوادث النفسية لدى الإنسان تبقى تجري في مجال الشعور بالدرجة الأولى فالإنسان يعيش معظم لحظات حياته واعيا .
التركيب : الحياة النفسية تتشكل من الشعور و اللاشعور .
من خلال ما سبق لا يمكن إهمال الجانب الشعوري لدى الإنسان ولا يمكن إنكار دور اللاشعور بعد ما تم التدليل عليه , ومن ثمة فالحياة النفسية عند الإنسان أصبحت بجانبين شعورية و لاشعورية باعتبار أن الشعور أمر لا يمكن إنكار وجوده . ولكنه لا يصاحب جميع أفعال الإنسان و لا يوجهها دائما . ثم أن للدوافع اللاشعورية أثر بارز في توجيه سلوك الفرد .
الخاتمة :إن الإنسان كائن واعي بالدرجة الأولى . وعليه فإذا كان شعور الإنسان لا يشمل كل حياته النفسية فما يفلت من الشعور يمكن رده إلى اللاشعور فهو في نظر فرويد مركز الثقل في الحياة النفسية وبالتالي فالشعور يشكل جانبا من الحياة النفسية واللاشعور يشكل الجانب الآخر .

: ما الدليل على وجود اللاشعور ؟
الطريقة الاستقصائية :
المقدمة : ( الإحاطة بموضوع اللاشعور)
إذا كان فرويد قد أقر فكرة وجود اللاشعور في حياة الإنسان بعد أن كانت الفكرة مستبعدة عند علماء ما قبل العصر الحديث وأكثر من ذلك أن فرويد نقل مركز النقل في الحياة النفسية من الشعور إلى الجهات المبهمة و اللامعقولة منها على حد تعبير " جوزيف نوتان " ( عالم نفساني معاصر ) و يقصد بذلك اللاشعور , فإذا كان اللاشعور يشكل جانبا من الحياة النفسية .
فما هو الدليل على أنه حقيقة لا تنكر ؟
التحليل :
بيان طبيعة اللاشعور : اللاشعور هو مجموع الأحوال النفسية الباطنية التي تؤثر على سلوك المرء وإن كانت غير مشعور بها ( جميل أصليا) ولقد تم تحديد معالم اللاشعور انطلاقا من اكتشافات (برنهايم) المتعلقة بالتنويم المغناطيسي والتي كشفت لفرويد أن العناصر الموجودة في حالة كمون ( لاشعور ) لا تبقى بالضرورة في حالة ركود دائما , وإنما قد تؤثر في السلوك دون الشعور بها وبذلك فكك فرويد الحياة النفسية إلى شعورية و لاشعورية , ووصل إلى أن اللاشعور لا يبقى دائما مكبوتا خارج الشعور , بل جزء من شخصية الفرد وعلى أساسه يمكن فهم هذه الشخصية .
إثبات وجدود اللاشعور : يعتبر فرويد مكتشف اللاشعور وقد استدل على وجود اللاشعور بمجموعة من الدلائل , تعرف حاليا بدلائل وجود اللاشعور منها :
فلتان اللسان : وهي عبارة عن ألفاظ تقلت من الإنسان عن غير قصد و تعبر عن رغبة مكبوتة لديه .
الأحلام : إشباع رغبات الإنسان التي لم يشبعها في الواقع فتجد في النوم فرصة مواتية لذلك .
الإبداع : ويأتي عن عمل اللاشعور بمعنى أن عناصر تخيلاتنا تتجمع في اللاشعور وتختزن الصور المبدعة في الذهن ثم تنبثق دفعة واحدة في شكل الهام وهناك دلائل أخرى مثل : زلات القلم , الهذيان , النسيان ...الخ .
قيمة اللاشعور : لقد جعل فرويد من اللاشعور مصدرا لنشاط الإنسان و فعاليته في مختلف المجالات , وبذلك فهو يحتل مكانه أهم من الشعور في حياة الإنسان ,لكن ذلك لا ينسجم مع طبيعة الإنسان العاقل , وعلى العموم فلاكتشاف وجود اللاشعور جوانب إيجابية حيث ألقى الضوء على كثير من أسباب السلوك كانت مجهولة , وكشف عن جانب لم يكن معروفا في النفس كما له جوانب سليبة كالمبالغة في تحديد دور اللاشعور وأثره في الحياة النفسية وعدم الاهتمام بالجانب الروحي ...
الخاتمة : ( بيان حقيقة اللاشعور )
إن وجود اللاشعور قائم على كثير من الأدلة . وهو يشير إلى منطقة من الحياة النفسية وهي المنطقة التي تجري فيها العمليات اللاشعورية , مثلما يشير الشعور إلى المنطقة التي تجري فيها العمليات النفسية الشعورية غير أن الأدلة المستمدة تحتاج إلى دعم عملي تجريبي وكمي ما دام الأمر يتعلق بنظرية علمية في علم يهدف إلى أن يكون موضوعيا وكميا مثل باقي العلوم الأخرى .

هل يكفي التكرار وحده في اكتساب العادة ؟
المقدمة : تعرف العادة على أنها سلوك مكتسب بالتكرار و يعرف "ابن سينا" التكرار بأنه إعادة الفعل الواحد مرات عديدة زمنا طويلا في أوقات متقاربة فهل تكوين العادات يتوقف على دور التكرار فقط ؟
التحليل :
أ- العادة تكتسب بواسطة التكرار :
يؤكد أنصار النظرية الآلية على دور التكرار في اكتساب العادة حيث قال "أرسطو" قديما "العادة وليدة التكرار" فحفظ قصيدة شعرية يتم بتكرار قراءتها عدة مرات بحيث تصبح الكلمة عن طريق الإشرط إشارة تدعو الكلمة التي تأتي بعدها .
وهو ما تؤكد عليه النزعة الارتباطية التي ترى أن اكتساب العادة ما هو إلا تكرار حركات وربط بعضها ببعض حيث تصبح حركات الفعل منسجمة و مترابطة فالحفظ عن ظهر قلب يعني ربط الحركات ربطا قويا .
لا يمكن إنكار دور التكرار في تكوين العادة لكن الحركات فيها تجديد و الذي يكتسب عادة لا يعيد الحركات ذاتها بل يعدلها وعليه فالتكرار وحده غير كاف .
ب- العادة لا تكتسب بالتكرار وحده بل لابد من الوعي :
يذهب أنصار النظرية العقلية إلى أن اكتساب العادة يتم بواسطة العقل والإرادة والاهتمام الذي يوليه الشخص لمحاولاته حيث يرى " فون دير فيلت " أن الحركة الأخيرة أي العادة ليست مجرد إعادة للحركات السابقة حيث يقول: " الحركة الجديدة ليست مجرد تجميع لحركات قديمة " . وهذا الرأي نجده عند الكثير من أنصار الاتجاه العقلي حيث قسم " مين دي بيران " العادة إلى عادات منفعلة يتعودها الإنسان دون الشعور بها , وعادات فاعلة و هي التي يتدخل فيها العقل والإرادة .
لا يمكن إنكار دور العقل في تتبع الحركات (تثبيت المحاولات الناجحة وحذف المحاولات الفاشلة) لكن الواقع يكشف دور التكرار في اكتساب العادة فلا يمكن إنكاره .
ج- العادة وليدة التكرار و الوعي :
- العادة سلوك يكتسب بالتكرار , وليس سلوكا لا شعوريا بل سلوك يخضع إلى العقل الذي يراقبه ويعدله كلما اقتضت الضرورة . حيث يقول " بول غيوم" في كتاب كامله " تكوين العادات " " إن علم النفس لا يجد صعوبة في استخلاص شرطين في تكوين العادات وهما : من جهة مرات تكرار الفعل ومن جهة أخرى الاهتمام الذي يوليه الشخص لفشله وإنجاحه " .
الخاتمة : إن التكرار هو العامل الجوهري والمباشر في اكتساب العادة بينما الإرادة والوعي والاهتمام هو العامل المتمم وغير المباشر في تكوين العادات .

هل يمكن إقامة الأخلاق على أساس العقل وحده ؟
المقدمة : إن المذاهب الأخلاقية وجدت نتيجة محاولة الفلاسفة فهم و تفسير الأخلاق العملية أي السلوك اليومي للناس ولذلك فأول خلاف واجهته هذه المذاهب هو أساس القيم الأخلاقية , وقد تعددت المذاهب الأخلاقية تبعا لتعدد هذه الأسس , والتي من أهمها العقل . فهل يمكن اعتبار العقل أساسا وحيدا للقيم الأخلاقية ؟ بمعنى آخر هل يمكن أن يجمع الناس كلهم على الأخلاق تبنى على العقل وحده ؟
التحليل :
العقل أساس القيمة الأخلاقية :
يذهب بعض الفلاسفة إلى أن العقل هو الذي يصنع القيم الأخلاقية و أن القيم الأخلاقية تتمثل في الفضيلة . حيث كان " سقراط " يقول : " أن العقل مصدر الفضيلة والخير الأسمى " إلا أن هذا الموقف بعثه من جديد وبقوة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ( 1724-1804) االذي كان يرى أن العقل هو أساس القيم الأخلاقية , و ان هناك مبدأ واحد يعتبره الناس خيرا وهو الإرادة الخيرة ( النية الطيبة ) هي وحدها خيرا مطلقا , وهي لا تقاس بنتائجها و إنما بمبدئها الذاتي , ومن ثم بالأوامر الأخلاقية نوعان :
أ- الأوامر الشرطية : ونعني بها القيام بالفعل لخير مطلوب ( غاية ) .
ب- الأوامر القطعية : القيام بالفعل لغاية ذاتية ( الحق من أجل الحق ) وهو وحده فعل الأخلاقي مثل التاجر الذي يستقيم مع زبائنه يفعل ذلك طبقا للواجب , ولكنه بدافع المنفعة لا الواجب , والإرادة الخيرة تعمل بدافع الواجب لا طبقا للواجب , ولهذا سميت أخلاق كانط بأخلاق الواجب .
مناقشة : يعاب على أخلاق كانط أنها نظرية وصورية ولا تهتم إلا بالأخلاق التي تتطابق مع أوامر العقل , وتهمل الأخلاق النابعة عن الشعور , بينما يتصرف الناس حسب شعورهم أكثر مما يتصرفون حسب عقولهم .
ليس العقل الأساس الوحيد للأخلاق :
لقد وجدت الكثير من الأسس الأخلاقية قبل كانط , منها مبدأ اللذة الذي كان يعتبر في نظر أرستيب القورينائي هو الخير المطلق حيث قال " ... اللذة هي الخير الأعظم , وهي مقياس القيم جميعا ..." ثم عمل أبيقور على تطوير مذهب اللذة إلى منفعة حيث كان يرى أنه هناك لذة أفضل من لذة أخرى ... فاللذة العقلية أفضل من اللذة الحسية ... ثم عمل بنتام على تطوير مذهب المنفعة حيث وضع لها مقاييس .
كما وجد فلاسفة الإسلام في الدين المبدأ الملائم لإقامة الأخلاق لأن العقل وحده قاصر لا يملك القدرة على التميز بين الخير و الشر دائما . كما أن الواجبات الدينية كلها سمعية " أفعل ما تؤمر " آية . ودليلهم على ذلك اختلاف القيم باختلاف الديانات . وإرادة الله مطلقة اختيار لإرادة الإنسان فيها . ويمكن إقامة الاختلاف على أسس أخرى كما فعل بعض الفلاسفة الآخرون كأصحاب النزعة الاجتماعية " المجتمع " .
مناقشة : لا يمكن بناء الأخلاق على اللذة وحدها , أو المنفعة وحدها لأن المنافع متعارضة ( مصائب قوم عند قوم فوائد ) كما أن الدين لم يوجد عند جميع الشعوب .
أساس القيمة الأخلاقية واحدا :
لا يمكن أن نبني الأخلاق على مبدأ واحد , حتى لو كان العقل أو الدين نظرا إلى أن القيم الأخلاقية نسبية متغيرة عبر الزمان والمكان وهي تابعة لشروط مختلفة تتحكم فيها . فالمجتمع الإسلامي يتمسك بالدين أولا و بالعقل ثانيا كمبدأين أساسين في إقامة الأخلاق دون إهمال باقي المبادئ الأخرى .
الخاتمة : معيار الفعل الأخلاقي ليس واحد , فقد تعددت مبادئ القيمة الأخلاقية بتعدد المذاهب الأخلاقية . لكن الأخلاق الإسلامية تركيبية شاملة لما تحتويه المذاهب الأخرى

: هل يمكن إقامة العدل بمجرد تحقيق المساواة ؟
المقدمة : إذا كان العدل هو الاستقامة في الاستحقاق , وهو الاعتدال أي التوسط بين الإفراط والتفريط , فإن مسألة تحقيق العدل ترتبط ارتباطا وثيقا بفكرة المساواة مثلما ترتبط فكرة الظلم بإحداث التفاوت بين الناس وعليه فهل العدل يكمن في تحقيق المساواة واحترامها أم أن العدل يكمن في إقامة التفاوت بين الناس واحترامه ؟
التحليل :
العدل يقوم على احترام التفاوت القائم بين الناس :
يذهب بعض الفلاسفة من أنصار التفاوت إلى أن العدل يكمن في احترام التفاوت القائم بين الناس , و أيضا في إقامته بينهم , لأن الناس يختلفون بالولادة في قدراتهم العقلية والجسمية ( الذكاء والغباء , القوة والضعف ) و ليس من العدل أن نسوي بينهم بل العدل يكمن في التمييز بينهم وعلى هذا الأساس قام المجتمع اليوناني القديم حيث أن " أفلاطون " : في جمهوريته الفاضلة يميز بين صنفين من الناس العبيد بقدرات عقلية محدودة وأوكل لهم العمل اليدوي والأسياد يملكون القدرات العقلية الهائلة أوكل إليهم العمل الفكري كالأشغال بالفلسفة . كما نظر " أرسطو " بعده إلى التفاوت على أنه قانون الطبيعة ويجب احترامه . ونجد هذا الموقف عند بعض المحدثين حيث يقول " ألكسيس كاريل Alexis Karel " ( عالم فيزيولوجي وجراح فرنسي : " فبدلا من أن نحاول تحقيق المساواة بين اللامساواة الجسمية والعقلية يجب أن نوسع من دائرة الاختلافات وننشئ رجالا عظماء ") وهكذا يكون التفاوت عدل بينما المساواة ظلم .
مناقشة : حقيقة الناس مختلفون بالطبيعة والتفاوت بينهم أمر طبيعي ومقبول لكن البعض يتخذ من التفاوت الطبيعي ذريعة لإقامة التفاوت الاجتماعي المصطنع من قبل طبقات اجتماعية مسيطرة لذا ينبغي تحقيق المساواة بين الناس .
العدل يكمن في إقامة المساواة بين الناس واحترامها :
يذهب البعض الآخر من الفلاسفة وهم أنصار المساواة إلى أن العدل يكمن في تحقيق المساواة بين الناس ن التفاوت القائم بين الأفراد يعود في معظمه إلى تأثير المجتمع لا إلى تأثير الطبيعة . فالطبيعة لم تخلق طبقة الأسياد وطبقة العبيد كل هذا من صنع المجتمع , وقد وجدت هذه الفكرة لدى المجتمعات القديمة حيث قال أحد حطباء اليونان وهو شيشرون : " الناس سواء وليس شيئا أشبه بشيء من الإنسان بالإنسان ... " وقال " عمر بن الخطاب " : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " . كما نجد هذا الموقف أكثر رواجا عند فلاسفة العصر الحديث ومنهم " برودون " ( فيلسوف و عالم اجتماعي فرنسي 1809-1865) الذي يقول : " إن العدل يكمن في احترام الكرامة الإنسانية " بينما يدعو " كانط " في كتاب كاملة مشروع السلام الدائم إلى نظام دولي جديد ترتكز فيع العلاقات على الديمقراطية والمساواة والعدل و هكذا فإن الاعتماد على التفاوت في تحقيق العدل فيه ظلم للناس .
مناقشة : حقيقة العدل بهذا المعنى أقرب إلى المساواة منه إلى التفاوت ولكن لا يمكن اعتبار كل مساواة عدل ولا يمكن أن نسوي بين الناس في كل شيء لأن المساواة المطلقة فيها ظلم لبعض الناس
العدل يكمن في تحقيق المساواة مع احترام التفاوت الطبيعي :
لا يمكن اعتبار كل مساواة عدل كما لا يمكن اعتبار كل تفاوت ظلم فإن المساواة التي يأمل فيها الإنسان لا تتنافى والتفاوت الصادر عن الطبيعة , فالعادل من الناس هو المستقيم الذي يسوي بين الناس أمام القانون و يحترم حقوقهم دون تدخل الاعتبارات الشخصية و لا يظلم في حكمه أحد و هكذا سوف تظهر الكثير من الصفات النبيلة كالكفاية والاستحقاق وتختفي الكثير من الصفات الرذيلة كالتمييز العنصري .
الخاتمة : لا يمكن تحقيق المساواة المطلقة بين الناس لأنهم متفاوتون في القدرات الجسمية والعقلية ولا يمكن محو ظاهرة التفاوت من حياة الناس لأنها طبيعة فيهم , وعليه فالعدل يكمن في تحقيق المساواة بين الناس أمام القانون


أيهما أجدر بتحقيق العدالة : القانون أم الأخلاق ؟
المقدمة :
إذا كان القانون جملة القواعد العملية المفروض رسميةة على الإنسان من الخارج لتنظيم شؤون حياته .و الأخلاق إلزام داخلي يأمر وينهي في مجال الخير والشر فكلاهما يهتم بالإنسان ولكن من زاويتين مختلفتين لهذا يطرح السؤال أيهما أجدر بتحقيق العدالة الاجتماعية ؟
التحليل :
القضية : يرى أنصار الاتجاه السياسي أن القوانين هي التي تحقق العدالة الاجتماعية لأن القانون هو الحارس الأمين للنظام الاجتماعي والموجه لسلوك الأفراد والمنظم لعلاقاتهم لدرجة أن الحياة الاجتماعية لا تستقيم بدونه يقول " مونتيسكو" : " ليس هناك من ظلم أو عدل إلا ما تأمر به أو تنهى عنه القوانين الوضعية "
ويقول أبو العلاء المعري :
قد فاضت الدنيا بناسها * على براياها و أجناسها
كل من فوقها ظالم * وما بها أظلم من ناسها
ويقول " شو بنهاور" :" الأخلاق من صنع الضعفاء حتى يقوا أنفسهم من شر الأقوياء " .
وحجتهم في ذلك أن الطبيعة البشرية شريرة , وبالتالي لا يمكن قيام عدالة اجتماعية على الأخلاق .
نقد : أصحاب هذا الاتجاه أهملوا الجانب الخير في الإنسان ونظرتهم تشاؤمية إذ أن القوانين كثيرا ما تكون جائزة كما في مقدرة الإنسان الإفلات منها وتجاوزها.
النقيض : يرى أنصار الاتجاه الأخلاقي أن الضمير الخلقي كإلزام داخلي جدير بتحقيق العدالة الاجتماعية لأنه يتابع صاحبه أينما حل .
يقول " برغسون " : " الأخلاق من ابتكار الأبطال لفائدة الإنسانية جمعاء " .
يقول كانط : " شيئان يملآن إعجابي سماء مرصعة بالنجوم وضمير يملأ قلبي "يقول انجلز : " الأخلاق من صنع الأقوياء " .
وحجتهم في ذلك أن القانون لا يستطيع مراقبة الفرد وبالتالي يمكنه الإفلات منه ولكنه لا يستطيع الإفلات من ضميره هذا بالإضافة إلى أن طبيعة الإنسان خيرة.
نقد : لكن هناك من يتميز بضعف الضمير وبنية مريضة وبالتالي لا ينبغي تركهم وشأنهم . كما أن بناء العدالة على الأخلاق معناه إخضاعها للعاطفة والعاطفة متقلبة ومتغيرة .
التركيب : وعليه العدالة الاجتماعية تتحقق بالجمع بين القانون والأخلاق و لا يمكن قيامها بأحدهما دون الأخرى إن قيام العدل يقتضي التقيد بالصالح العام وهذا يفرض رائع علينا احترام القانون أخلاقيا كان أو اجتماعيا .
الخاتمة : إن التعامل في العلاقات الإنسانية وقيام العدالة الاجتماعية يتم بالقانون الذي يعتمد على العقل وبالأخلاق التي تعتمد على العاطفة فإذا كان القانون يمثل روح هذه العلاقات فإن الأخلاق يمثل حرارتها .




هل الغاية من الشغل حفظ البقاء وحسب ؟
المقدمة : إذا كان بإمكان الإنسان اليوم أن يلاحظ مدى القلق الذي يحدثه الشغل في الأسر الحديثة , فإن الأمر ذاته كان يحدث لدى الأسر القديمة و حتى عند الإنسان الأول قبل انضمامه إلى المجتمع المدني . وإذا كان الإنسان يتحمل هذا القلق وهذا التعب في سبيل الحصول على عمل من أجل تلبية رغباته وإشباع حاجاته الضرورية التي تحفظ له البقاء فهل تلبية ضروريات الحياة والمحافظة عل البقاء هي الغاية الوحيدة للشغل ؟
التحليل :الشغل ضرورة بيولوجية تحفظ بقاء الإنسان :
إن أكبر مشكلة صارعها الإنسان منذ وجوده هي تلبية الضروريات والحفاظ على الوجود بتوفير المأكل , الشرب ,الملبس , المأوى ...الخ . ولا يتسنى له ذلك إلا بالشغل , وهكذا يرى أنصار الاتجاه البيولوجي أن الحاجة البيولوجية هي الدافع الأساسي للشغل .
ودليلهم على ذلك أن الإنسان منذ العهود الغابرة لو وجد كل شيء جاهز في الطبيعة لما أقدم على العمل وعلى بذل الجهد لتغيير الطبيعة أو التأثير فيها , والواقع يثبت مادة التاريخيا أن طبقات ترفعت عنه وأكرهت الآخرين عليه ( المجتمع اليوناني , نظرة أفلاطون من خلال كتاب كاملة الجمهورية ) نظرا لما في الشغل من إلزام وعناء و قساوة .
لكن الإنسان وبوصفه أرقى الكائنات تجاوز الصراع القائم بيته وبين الطبيعة ولم يعد نشاطه موجها إلى سد حاجياته البيولوجية وحسب و إنما أنتج قيما روحية ومعنوية للشغل مكنته من إنتاج حضارة متقدمة .
الشغل ليس ضرورة بيولوجية بل عنوان التقدم والرقي :
لقد تغير موقف الإنسان من الشغل عبر المادة التاريخ فنظر إليه اليونان نظرة احتقار واعتبره اليهودية لعنة وربطته المسيحية بخطيئة آدم . أما الإسلام نظر إلى العمل نظرة مختلفة تماما عما سبق حيث اعتبره في منزلة العبادة و أوجبه على الجميع حيث قال تعالى : " وقال اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " . كما اعتبره نعمة تستدعي الشكر وشرفا يحاط به المرء حيث يقول ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن أشرف الكسب كسب الرجل من يده " وسيادة لصاحبه حيث يقول أيضا : " خادم القوم سيدهم " .
وهكذا أخذ العرب هذه الصفات النبيلة للعمل , وأصبح الشغل ذلك الجسر الذي يمر به الإنسان من مرحلته البدائية إلى المرحلة الحضارية . أين أصبح يتحكم في الطبيعة كما يقول هيغل : " أصبح الإنسان يتملك الطبيعة " و يهدف إلى تحقيق القيم الاجتماعية حيث يرى أنصار الاتجاه الاجتماعي أن الشغل ظاهرة اجتماعية باعتبار أن الفرد بمفرده عاجز عن إشباع حاجاته مما فرض رائع عليه التعاون مع الغير , فنشأت التجمعات السكانية كالمدن و القرى فأصبح الشغل نشاط جماعي ويهدف إلى تحقيق قيم اجتماعية حيث ذهب " ابن خلدون " إلى أن الإنسان مدني بالطبع . وأن الشغل نشاط ملازم للاجتماع البشري . لكن الشغل كان في بدايته دافعا بيولوجيا و لا يعتبر شرفا عند جميع الناس فالدافع البيولوجي لا يزال فاعلا خاصة في ظل بعض الأنظمة التي تشغل حتى الأطفال وفي سن مبكرة .
الشغل دافع بيولوجي ودافع أخلاقي اجتماعي معا :
لقد كان العمل في البداية واقعا بيولوجيا فحاجات الإنسان كثيرة و إمكاناته الأولية محدودة فكان همه في الحياة تلبية ضرورياته و المحافظة على وجوده , لكنه بعد التحكم في الطبيعة , و ظهور العلوم والصنائع أصبح الشغل دافعا أخلاقيا واجتماعيا ولم يعد الدافع البيولوجي سوى وسيلة وليس غاية حيث يقول (صلى الله عليه وسلم ) : " نحن قوم نأكل لنعيش لا نعيش لنأكل " .
الخاتمة : إن الدور الكبير الذي لعبه الشغل في حياة الإنسان قديما و حديثا , يكشف أن القيمة التي يحتلها اليوم عند الأفراد والشعوب فهو بالإضافة إلى أنه مصدر النمو والتطور والرقي في سلم الحضارة فإنه المقياس الذي نقيس به مدى تقدم الأمم والحضارات .
هل تكفي المنافسة الحرة لتحقيق الرخاء الاقتصادي ؟
المقدمة : إن ظهور الثورة الصناعية في أوروبا كان لها انعكاس كبير على الشؤون الاقتصادية هناك , حيث تدخلت الدولة في أمور الاقتصاد عن طريق تنظيم قطاعات وتأميم قطاعات أخرى ... الأمر الذي أدى إلى تذمر البعض من أنصار النزعة الفردية مما أحدث رد فعل يطالب بالحرية الاقتصادية القائمة على المنافسة الحرة في مختلف الميادين فهل المنافسة الحرة جديرة بتحقيق الرخاء الاقتصادي ؟
التحليل:
القضية : المنافسة الحرة جديرة بتحقيق الازدهار الاقتصادي :
لقد ظهر النظام الرأسمالي متأثرا بالأنظمة الفردية السابقة فآمن بدور الفرد في المجتمع والملكية المطلقة فركزعلى مصلحة الفرد وجعل الدولة جهاز يعمل على حماية الفرد ومصالحه , منها حفظ حرياته في التعامل الاقتصادي وفتح المجال العام بما يسمح له بالتملك والإنتاج والبيع وهذا يبعث على التنافس الشديد بين الناس وعليه تقوم العدالة.
أنصار النظام الليبيرالي " الحزب الفيزيوقراطي " شعارهم ( دع الطبيعة تعمل ما تشاء دعه يمر بما شاء ) وهي عبارة مشهورة عند أدم أسميث " دعه يعمل دعه يمر " فحفظ المصلحة الخاصة أحسن ضمان لحفظ المصلحة العامة .
ودليلهم على ذلك أن الشؤون الاقتصادية مثل الظواهر الطبيعية تخضع لنظام طبيعي إلهي لا لقوانين الدولة , فالقانون الطبيعي وحده المنظم لعلاقات السوق والعمل وهو ما يعرف بقانون العرض والطلب وفي هذا الاتجاه التنافس كفيل بتحقيق العدالة الاجتماعية .
مناقشة : هذه الطريقة في العمل أدت إلى زيادة رؤوس الأموال وتركيزها في يد أقلية من المالكين ( الطبقة الرأسمالية ) تستغل وتسيطر على بقية الطبقات الاجتماعية , مما ترتب عنه ظهور شركات كبرى أدت إلى ظهور الأسلحة والاستعمار والواقع أثبت أن هذا النظام أدى إلى حدوث أزمات اقتصادية كثيرة.
النقيض : الاقتصاد الموجه جدير بتحقيق الازدهار الاقتصادي .
في وقت بلغت فيه الرأسمالية قوتها وتحولت إلى توسع استعماري يلتهم خيرات الشعوب الضعيفة والبنوك هي المحرك الوحيد لعقول الناس , ظهرت الماركسية كنظام اقتصادي يكشف عن التناقضات الموجودة في الرأسمالية , وتطالب بتدخل الدولة في تنظيم الاقتصاد , وهنا ما عمل على توضيحه " كارل ماركس "من خلال كتاب كامله " رأس المال " الذي عمل فيه على فضح الرأسمالية فقال " الرأسمالية تحمل في طياتها آيات بطلانها " وكشف عن نظريته في الاشتراكية التي تقوم على قواعد مخالفة تماما لتلك التي قامت عليها الرأسمالية , ومن قواعدها : ملكية وسائل الإنتاج جماعية , والأرباح توزعها الدولة في صورة مشاريع وفقا لتنظيم اقتصادي موجه ( التخطيط الاقتصادي).
نقد : هذا النظام نجح في القضاء على الطبقة وخفف من معاناة العمال إلا أنه لم يحقق التطور الاقتصادي المحدد مسبقا بدليل عدم ظهور الشيوعية و ذلك لأسباب موضوعية لم تلاحظها الماركسية ومنها بعد النظرية عن طبيعة الإنسان بمنعها لحق التملك .
التركيب : إذا كان النظام الاقتصادي الرأسمالي اهتم بالفرد بإطلاق حرية المنافسة والنظام الاقتصادي الاشتراكي اهتم بالجماعة بتقييده لحرية الفرد , فإن كلتا النظريتين فيهما إجحاف وتبقى النظرة الموجهة إلى الاقتصاد الإسلامي الذي يتجاوزهما إلى الاهتمام بالفرد والجماعة معا . و هو ينظر للحياة نظرة شاملة مادية ومعنوية تقوم على مراعاة الجانب الأخلاقي في التعامل الاقتصادي منها مثلا : الفرد والجماعة لهما الحق في الملكية بشرط أن يكون الكسب مشروعا وحلالا ومن أجل تضييق الهوة بين الفقراء و الأغنياء فرض رائع الزكاة وشرع قواعد للملكية ... الخ .
الخاتمة : إن المنافسة الحرة وإن كانت تساهم في التطور الاقتصادي فإنها سبب في الصراع الاجتماعي وضحيته الإنسان الضعيف وسبب في ظهور الاستغلال واللاأمن . والتفكير في التنظيم الاقتصادي نتيجته الوقوف على أنظمة اقتصادية مختلفة والمنافسة المطلقة ليست وحدها كفيلة بتحقيق الرخاء الاقتصادي .
هل الدولة بحاجة إلى الأخلاق ؟
المقدمة : إن الدولة في تنظيم أمورها وتدبير شؤونها , تحتاج إلى هيئة تشرف على تسيير وتنظيم حياة الأفراد داخل إطار اجتماعي . وهو ما يعرف بالسلطة الحاكمة وهي تعمل على وضع القوانين وتطلب من الأفراد الالتزام بها قصد تحقيق المصلحة العامة . إلا أن هذه القوانين قد لا تقوى على ضبط العلاقات الاجتماعية ضبطا كاملا , فتنظيم علاقة الفرد بالفرد من جهة وعلاقة الفرد بالجماعة من جهة أخرى يجعل للأخلاق مكانة ودورا في التنظيم السياسي فهل الدولة تحتاج الأخلاق في نظام حكمها أم يكفيها ممارسة العمل السياسي ؟ بمعنى آخر هل يكفي ممارسة السياسة في الحكم دون ما حاجة إلى الأخلاق ؟
التحليل :
الدولة في غنى عن الأخلاق :
إن الأنظمة الفردية التي سادت قديما لم تعر أدنى اهتمام بالجانب الأخلاقي في الحكم . بل اهتمت كثيرا بالقوة , ولعل ذلك يظهر بوضوح في نظرية العقد الاجتماعي عند " هوبز " , ونظرية القوة والغلبة عند " ابن خلدون" في وصفه لكيفية قيام الدول وسقوطها , إلا أن ما ذهب إليه المفكر الإيطالي " ماكيافللي " (1469-1527) يبعد الأخلاق عن الدولة كونه يعتبر أن القوة المحركة للمادة التاريخ هي المصلحة المادية والسلطة ويرى في مؤلفه الرئيس " الأمير " إن الدولة التي تقوم على الأخلاق والدين تنهار بسرعة , فالمهم بالنسبة للحاكم هو تحقيق الغاية المنشودة وهي قوة الدولة وسيطرتها بآية وسيلة كانت " الغاية تبرر الوسيلة " حيث كان يعتبر من المسموح به استخدام كل الوسائل في الصراع السياسي مبررا بذلك القسوة و الوحشية في صراع الحكام على السلطة . كما يرى أن فساد الدولة وتدهور العمل السياسي يعود إلى تدخل الأخلاق والدين لذلك يفصل بين السياسة والأخلاق .
لكن المادة التاريخ يشهد أن مجمل الأنظمة التي قامت على القوة واللاأخلاق و تخلت عن الأخلاق وتحقيق القيم في الحكم كانت نهايتها الفشل .
الدولة بحاجة إلى الأخلاق :
لقد أمن بعض الفلاسفة منذ القديم بضرورة إدخال الأخلاق في العمل السياسي , فقد نظر " أرسطو " إلى علم الأخلاق على أنه علم عملي هدفه تنظيم الحياة الإنسانية بتحديد ما يجب فعله وما يجب تركه وهذا لا يتحقق إلا بمساندة القائمين على زمام الحكم باعتبار أن كثيرا من الناس لا يتجنبون الشر إلا خوفا من العقاب .
ولذلك فقد حدد أرسطو غاية الإنسان من الحياة في مستهل كتاب كامله :" الأخلاق إلى نيقوماخوس " على أنها تحقيق " الخير الأعظم " وبدون معرفته و الوقوف عليه لا نستطيع أن نوجه الحياة .
بينما في العصر الحديث ربط " ايمانويل كانط " (1724-1804) فيلسوف ألماني السياسة بالأخلاق ربطا محكما . وبين على عكس ماكيافيللي أن الغاية من وجود الدولة هو مساعدة الإنسان وتحسين ظروف حياته وجعل من السياسة وسيلة لتحقيق غايتها وهي خدمة الفرد حيث يقول : " يجب أن يحاط كل إنسان بالاحترام التام كونه غاية مطلقة في ذاته " .
وقد عمل كانط من خلال كتاب كامله " مشروع السلام الدائم " على أن الحياة السياسية داخل المجتمع الواحد وخارجه يجب أن تقوم على العدل و المساواة . وقد كان لكتاب كامله تأثيرا على الأنظمة الحاكمة في أوروبا – وقد جاء في المادة الأولى من لائحة حقوق الإنسان : " يولد الناس جميعا أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق ..." .
وهي قيم أخلاقية يعمل المجتمع الدولي على تحقيقها .
لكن الحياة الواقعية التي يعيشها الإنسان وتعيشها الدول لا تقوم على مبادئ ثابتة بل ممتلئة بالحالات الخاصة التي لا تجعل الإنسان يرقى إلى هذه المرتبة من الكمال التي يعامل فيها أخيه الإنسان على انه غاية في ذاته .
الدولة تعتمد على السياسة وتحتاج إلى الأخلاق :
الإنسان مدني بالطبع , لهذا كان لابد أن يعيش الإنسان في جماعة , و أن تكون له مع هذه الجماعة مقتضيات الحياة السعيدة ومن هنا كان قيام المجتمع بحاجة إلى السياسة لتضع نوع الحكم الملائم له وبحاجة إلى الأخلاق لتنظيم علاقة الفرد بجماعته وبغيره من الأفراد .
الخاتمة : إن الدولة في حاجة ماسة إلى الأخلاق , وحتى الدول العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة تتبنى الكثير من القواعد الأخلاقية في أنظمة حكمها , فالأخلاق ما هي إلا قانونا في جانبه العملي .
هل يمكن الفصل بين الإحساس و الإدراك ؟
الإحساس : ظاهرة نفسية متولدة عن تأثر إحدى الحواس بمؤثر ما , وبذلك فهو أداة اتصال بالعالم الخارجي ووسيلة من وسائل المعرفة عند الإنسان بينما الإدراك هو عملية عقلية معقدة نتعرف بها على العالم الخارجي بواسطة الحواس ومن خلال تعريفها تظهر العلاقة القائمة بينهما والتقارب الكبير الذي يجمعهما مما أثار إشكالا لدى الفلاسفة وخاصة علماء النفس حول الذي يجمعهما مما أثار إشكالا لدى الفلاسفة وخاصة علماء النفس حول إمكانية الفصل بينهما أو عدمه, بمعنى إن شعور الشخص بالمؤثر الخارجي و الرد على هذا المؤثر بصورة موافقة هل نعتبره إحساس أم إدراك أم أنهما مع يشكلان ظاهرة واحدة ؟
إمكان الفصل بين الإحساس والإدراك :
يؤكد علم النفس التقليدي على ضرورة الفصل بين الإحساس و الإدراك و يعتبر الإدراك ظاهرة مستقلة عن الإحساس انطلاقا من أن الإحساس ظاهرة مرتبطة بالجسم فهو حادثة فيزيولوجية ومعرفة بسيطة , أما الإدراك فهو مرتبط بالعقل . أي عملية عقلية معقدة تستند إلى عوامل كالتذكر والتخيل و الذكاء وموجه إلى موضوع معين . فيكون الإحساس معرفة أولية لم يبلغ بعد درجة المعرفة بينما الإدراك معرفة تتم في إطار الزمان والمكان . حيث يقول " ديكارت " : " أنا أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أني أراه بعيني " . ويقول " مين دوبيران Maine de Biran : " الإدراك يزيد على الإحساس بأن آلة الحس فيه تكون أشد فعلا والنفس أكثر انتباه ... " .
وكما يختلف الإدراك عن الإحساس فكذلك يختلف عن العاطفة لأن الإدراك في نظرهم حالة عقلية والعاطفة حالة وجدانية انفعالية .
لكن إمكانية الفصل بين الإحساس و الإدراك بشكل مطلق أمر غير ممكن باعتبار أن الإدراك يعتمد على الحواس . حيث قال التهانوي : " الإحساس قسم من الإدراك " وقال الجرجاني : " الإحساس إدراك الشيء بإحدى الحواس " .
استحالة الفصل بين الإحساس والإدراك :
يؤكد علم النفس الحديث على عدم إمكانية الفصل بين الإحساس والإدراك كما أن الفلسفة الحديثة تنظر إلى الإدراك على أنه شعور بالإحساس أو جملة من الاحساسات التي تنقلها إليه حواسه , فلا يصبح عندها الإحساس و الإدراك ظاهرتين مختلفتين وإنما هما وجهان لظاهرة واحدة , ومن الفلاسفة الذين يطلقون لفظ الإحساس على هذه الظاهرة بوجهيها الانفعالي والعقلي معا " ريد Reid " حيث يقول : " الإدراك هو الإحساس المصحوب بالانتباه " .
بينما يبني الجشطالط موقفهم في الإدراك على أساس الشكل أو الصورة الكلية التي ينتظم فيها الموضوع الخارجي , فالجزء لا يكتسب معناه إلا داخل الكل . فتكون الصيغة الكلية عند الجشطالط هي أساس الإدراك . فالإدراك يعود إلى العوامل الموضوعية . فالصيغ الخارجية هي التي تفرض رائع قوانينها علينا و تؤثر على إدراكنا , وبذلك فهي تحد من قدراتنا العقلية . وعليه فالإدراك ليس مجموعة من الاحساسات و إنما الشكل العام للصورة هو الذي يحدد معنى الإدراك . فالثوب المخطط عموديا قد يزيد من أناقة الفتاة , وذات الثوب بخطوط أفقية قد يحولها إلى شبه برميل .
لكن رد الإدراك بشكل كلي إلى الشكل الخارجي أمر لا تؤكده الحالة النفسية للإنسان فهو يشعر بأسبقية الإحساس الذي تعيشه الذات كما أن رد الإدراك إلى عوامل موضوعية وحدها , فيه إقصاء للعقل ولكل العوامل الذاتية التي تستجيب للمؤثر . وإلا كيف تحدث عملية الإدراك ؟ ومن يدرك ؟
الإدراك ينطلق من الإحساس ويتجه نحو الموضوع :
إن الإدراك عملية نشيطة يعيشها الإنسان فتمكنه من الاتصال بالموضوع الخارجي أو الداخلي , وهو عملية مصحوبة بالوعي فتمكنه من التعرف على الأشياء . والإدراك يشترط لوجوده عمليات شعورية بسيطة ينطلق منها . و هو الإحساس , بكل حالاته الانفعالية التي تعيشها الذات المدركة , ووجود الموضوع الخارجي الذي تتوجه إليه الذات المدركة بكل قواها وهو ما يعرف بالموضوع المدرك .
إن الاختلاف بين علم النفس التقليدي الذي يميز بين الإحساس و الإدراك , وعلم النفس الحديث الذي لا يميز بينهما باعتبار أن العوامل الموضوعية هي الأساس في الإدراك يبقى قائما . غير أن التجربة الفردية تثبت أن الإنسان في اتصاله بالعالم الخارجي وفي معرفته له ينطلق من الإحساس بالأشياء ثم مرحلة التفسير والتأويل فالإحساس مميز عن الإدراك ليسبقه منطقيا إن لم يكن زمنيا .
أيهما أهم في الإدراك : العوامل الذاتية أم العوامل الموضوعية ؟
إذا كان علم النفس التقليدي قد نظر إلى الشروط الذاتية النفسية والعقلية و البيولوجية على أنها مجموعة العناصر الأولية والضرورية في حدوث عملية الإدراك . وإذا كان علم النفس الحديث يعتبر ذلك خطأ وراح يصحح هذه النظرة منطلقا من أن العوامل الموضوعية هي الضرورية في عملية الإدراك , فإلى أي منهما تعود الأفضلية في حصول عملية الإدراك إلى الذات أم إلى الموضوع ؟
الأفضلية في الإدراك تعود إلى عوامل ذاتية :
يذهب بعض العلماء وخاصة علماء النفس التقليدي إلى أن العوامل الذاتية مثل الاستعدادات العقلية هي التي تمكن من الإدراك , فالإنسان عندما يكون مرتاحا تكون لديه قدرة على الانتباه والتركيز أفضل مما يكون في حالة قلق , كما يدرك الفرد بسهولة الأشياء التي تتفق مع ميوله ورغباته ...
وهذا الموقف نجده عند الذهنيين أمثال " ديكارت " : " الإدراك حكم عقلي " وعند التجريبيين أمثال " جورج بركلي " : " إدراك المسافات حكم يستند إلى التجربة " . كما يقف " بيرلو " من خلال تجاربه على أطفال عرب ( إدراك الأشياء من اليمين إلى اليسار) وغير العرب ( إدراك الأشياء من اليسار إلى اليمين ) أن الإدراك راجع إلى دور العادة .
لكن العوامل الذاتية وحدها غير كافية , وإلا تمكن الجميع من الإدراك لأن قدرة العقل مشتركة كما أن القدرات العقلية أحيانا لا يمكنها تجاوز العوائق الخارجية .
الأهمية في الإدراك تعود إلى العوامل الموضوعية :
يذهب البعض الآخر من العلماء وخاصة علماء النفس الحديث إلى أن الإدراك يعود إلى الموضوع الخارجي , لا إلى الاستعدادات العقلية فالشكل الخارجي للموضوع وبناؤه العام هو الذي يحدد درجة الإدراك وهذا الرأي نجده عند علماء الجشطالط كوهلر , بوهلر و فرتيمر الذين ركزوا على الصفة الكلية للموضوع واعتبروها أساس الإدراك فالجزء لا يكتسب معناه إلا داخل الكل الذي ينتظم وفق قوانين يسميها الجشطالط قوانين الانتظام و هي تتحكم في العلاقة بين الصورة والخلفية , فعندما تكون هذه العلاقة منتظمة تبرز الصورة الفضلى أي الصيغة البارزة . أما إرادة الإنسان فلا تتدخل إلا في حالة وجود صورتين فضليين مثلا في الشكل : وجهان متقابلان أو مزهرية .
لكن العوامل الموضوعية وحدها غير كافية هي الأخرى و إلا تساوى الإدراك عن جميع المدركين لأن الموضوع واحد , كما أن لكل إنسان اهتمامه فلا يعود للصورة الفضلى الأفضلية في الإدراك عند الجميع .
الإدراك يكون بتظافر العوامل الذاتية مع العوامل الموضوعية :
إن العلاقة بين العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية يبدو على أنها علاقة تنافر باعتبار أن الأولى داخلية وتتعلق بخصائص شخصية الفرد و أحواله الذاتية . والثانية خارجية وتتعلق بالمحيط الذي يوجد فيه الشخص , والواقع أن هذه العلاقة هي علاقة تجاور لأننا من الناحية العملية لا نستطيع أن نفصل بين ما هو داخلي وما هو خارجي فالفرد يدرك بالاعتماد عليهما معا .
إن حصول عملية الإدراك عند الإنسان لا يمكن ردها إلى العوامل الذاتية وحدها فقط وإنما الإدراك عملية تتم عن طريق التكامل والتعاون بين العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية .
نص السؤال : هل الذاكرة مرتبطة بالدماغ وحسب ؟
إن حياة الإنسان لا تقتصر على معرفة الحاضر فقط , فهو يعيش الزمن بأبعاده الثلاثة , الماضي والحاضر والمستقبل , فإذا ما انقطع عن إدراك الحاضر عاد إلى تفحص الصور الذهنية المدركة التي أصبحت من الماضي لتعاقب الزمن عليها . وهذه الصور الذهنية التي هي في الواقع من مدركات الماضي تتطلب من الإنسان قدرة عقلية فعالة لاسترجاعها في الزمن الحاضر مما يثبت أنها كانت مخزنة في جانب ما تم تذكرها أي استدعاؤها إلى الزمن الحاضر , وعليه فهل التخزين والتذكر يعودان إلى نشاط الدماغ وحده ؟ بمعنى آخر هل الذاكرة ذات طبيعة فيزيولوجية " عضوية " ؟
الذاكرة وظيفة عضوية مرتبطة بالدماغ :
يفسر بعض الفلاسفة والعلماء الذاكرة تفسيرا ماديا بردها إلى دور الأعضاء وخاصة الدماغ في حفظ الذكريات وفي استرجاعها حيث قال عنها ابن سينا : " إنها قوة محلها التجويف الأخير من الدماغ من شأنها حفظ ما يدركه الوهم من المعاني الجزئية " . فوظيفة الذاكرة بهذا المعنى هي الحفظ والتذكر , وهذا الرأي نجده عند ديكارت الذي كان يقول : " إن الذاكرة تكمن في ثنايا الجسم " و المقصود بذلك هو الدماغ وهذا ما عبر عنه " تين Taine " بقوله : " المخ وعاء لحفظ الذكريات " .
غير أن التفسير المادي للذاكرة تبلور بشكل أكثر وضوحا مع ريبو Ribot .ومن خلال كتاب كامله " أمراض الذاكرة " حيث قال : " إن الذاكرة بطبيعتها عمل بيولوجي " . كما قال أيضا : " الذاكرة وظيفة عامة للجهاز العصبي ... " فالذكريات عنده تثبت في الجهاز العصبي أي في الدماغ الذي يعتبره بمثابة وعاء للذكريات , فالذاكرة بمثابة الأسطوانة تخزن الذكريات كما تخزن الأخرى الأغاني وتبعث بمؤثرات الحاضر , والذكريات تثبت بطريقة آلية حيث تنطبق حركاتها مع الجهاز العصبي وهي بذلك شبيهة بالعادة , وأي مرض أو إتلاف يصيب الخلايا العصبية يؤدي إلى إتلاف الذكريات الموجودة هناك , و يكون هذا التحلل أو الفقدان حسب قوانين ثابتة تظهر في قوله : " إن فقدان الذكريات عند التحلل الجزئي تتبع طريقة لا تتغير أسماء الأعلام فأسماء الأجناس ... فالإيماءات أما عند التحلل العام فالحوادث القريبة العهد فالأفكار ... فالأفعال . كما أن عودتها تكون وفقا للترتيب المعاكس لفقدانها " .
لا شك في أن للدماغ دورا في حفظ وبعث الذكريات , ولكن ربط الذاكرة بالدماغ وحده فيه مبالغة خاصة فيما يتعلق بأمراض الذاكرة وفقدانها بشكل مرتب وحسب قوانين .
الذاكرة وظيفة نفسية لا ترتبط بالدماغ :
يذهب بعض الفلاسفة والعلماء إلى تفسير الذاكرة تفسيرا روحيا لا ماديا وعلى رأس هؤلاء " برغسون " الذي انتقد النظرية المادية وخاصة نظرية ريبو في تعلق الذاكرة بالدماغ حيث يرى أنه يحدث وأن تعود فجأة الذكرى التي كنا نظن أنها أتلفت وهذا بفعل تأثير قوي على النفس فهل من المعقول أن يحدث ذلك لو أنها كانت نتيجة إتلاف خلايا الدماغ ؟ كما انتقد ريبو بشدة في الذاكرة المرضية حيث يقول : " أفلا يكون من الغريب حقا أن يمس هذا المرض هذه الخلايا بالترتيب ؟ " .
وهكذا يخلص برغسون إلى أن ريبو قد اخلط بين نوعين من الذاكرة :
أ- الذاكرة العادة : وهي ذاكرة جسمية أو حركية وهي حركات مخزونة في الجسد تكونت نتيجة تكرارها .
ب- الذاكرة الروحية : وهي ذاكرة بسيكولوجية شعورية أو لاشعورية ) وهي نفسية خالصة تولد تامة , تحفظ ذكريات الماضي دفعة واحدة بصورة مستقلة عن الدماغ , فهي من طبيعتها ألا تتكرر . فالذكرى تتردد بين الشعور و اللاشعور وما الدماغ إلا أداة استحضار وما دامت الذكرى روحية فلا معنى للسؤال أين توجد ؟ وقولنا أنها موجودة في الفكر يكون على سبيل المجاز فقط .
لا نشك في أن الذاكرة ترتبط بالنفس , وفي أن التمييز بين الذاكرة الحركية والنفسية يزيد الموضوع وضوحا , لكن الفصل التام بين ما هو عضوي وما هو نفسي فيه مبالغة , والتجربة تثبت استرجاع الذكرى يحتاج إلى سند مادي ملائم . فالذكريات قد تبعثها حركات جسمية .
الذاكرة ليست وظيفة فردية ( فيزيولوجية أو بسيكولوجية ) بل نشاط جماعي :
يذهب بعض الفلاسفة إلى تجاوز التفسير المادي والتفسير الروحي باعتبار الذاكرة وظيفة اجتماعية بحيث تتدخل المفاهيم الاجتماعية من تفكير ولغة و عادات ...الخ . في عملية التذكر مما يجسد التعاون بين الذاكرات . حيث يقول " هالفكس " في كتاب كامله " الأطر الاجتماعية للذاكرة " : " إن الماضي لا يحتفظ به , انه يعاد بناؤه انطلاقا من الحاضر , والذكرى تكون قوية لما تنبعث من نقطة التقاء الأطر والنسيان هو نتيجة اختفاء هذه الأطر " . هكذا تصبح الذاكرة نشاطا اجتماعيا وليس عملا فرديا , فالذاكرة الحقة عنده هي الذاكرة الاجتماعية الناتجة عن التفاعل بين الأفراد .
إن الذاكرة باعتبارها صفة إنسانية هي مرتبطة هي مرتبطة بنشاط الفرد في حياته اليومية وبذلك تتدخل فيها معطيات متشبعة منها الجانب الجسمي ممثلا في دور الدماغ والجانب الروحي ممثلا في الحياة النفسية بجانبيها الشعوري و اللاشعوري بالإضافة إلى العلاقات الاجتماعية للفرد بأطرها ومفاهيمها الاجتماعية .
هل النسيان مرض ؟
إن الحديث عن الذاكرة باعتبارها قدرة تمكن صاحبها من حفظ الماضي واسترجاعه عند الضرورة من أجل التكيف , لا يعني أنها قدرة مطلقة تتحكم في التخزين والاسترجاع في جميع الأحوال والظروف بل يحدث وأن تختل الذاكرة فيصعب عليها حفظ الذكريات أحيانا , كما يصعب على صاحبها أحيانا أخرى استرجاع ما تم حفظه فتصبح الذاكرة عاجزة عن أداء دورها على الرغم من الجهد الذي يبذله الإنسان في سبيل ذلك و هو ما يعرف بالنسيان . فهل ظاهرة النسيان عند الإنسان حالة مرضية أم حالة عادية تعيشها الذاكرة ؟ بمعنى آخر هل فقدان الذكريات بشكل أو بآخر في نظر العلماء يعتبر مرضا ؟
النسيان مرض : إن الذاكرة باعتبارها نفسية تعمل على حفظ الذكريات و استرجاعها عند الضرورة فإن كل فقدان أو عجز في الاستحضار يعتبر حالة سلبية . ومن بين العلماء الذين يرون أن النسيان مرض ريبو الذي فسر النسيان تفسيرا ماديا يرده إلى إصابة في الدماغ , فأية إصابة في خلايا القشرة الدماغية يؤدي حتما إلى زوال الذكريات المسجلة عليها , مما ينتج عنه فقدان الذكريات وهذا الفقدان قد يكون كليا فيبدأ من الحوادث القريبة العهد ويمتد إلى الأفعال والإشارات , كما يمكن و أن يتماثل المريض إلى الشفاء فيسترجع ذاكرته فتعود الذكريات وفقا للترتيب المعاكس لفقدانها , ومن بين الأمراض التي تصيب الذاكرة : الأمنيزيا, الأفازيا .. ( راجع أمراض الذاكرة ) .
أما فرويد فقد اعتبر النسيان كبت في جانب اللاشعور , فالمريض لا ينسى كل الحوادث التي عاشها في الماضي وإنما ينسى بعض الحوادث المؤلمة التي لا يرغب في تذكرها فهي التي تستقر في اللاشعور لأن الأنا يعمل على إبعادها من ساحة الشعور . ونتيجة هذا التفسير فإن النسيان مرض مهما كانت أسبابه , وهو يعيق نشاط الفرد .
لكن ليس كل نسيان مرض , فقد يكون النسيان شرطا لحياة الذاكرة نفسها , إذ منه يكون نفسيا وتلقائيا لعدم الحاجة إليه دون كبت ولا تلف لخلايا الدماغ .
النسيان حالة عادية : إن الذاكرة لا تعني حفظ كل آثار الماضي ثم استعادتها جميعا , بل ينتقي الإنسان ما هو ضروري وموافق لاهتماماته , ومن هنا يكون أمرا عاديا وطبيعيا أن ينسى إنسان بعض آثار الماضي , ومن بين الفلاسفة الذين يرون أن النسيان حالة عادية " برغسون " الذي اعتبر النسيان حالة طبيعية يعيشها الفرد إذ لا يتذكر من الماضي إلا ما كانت له علاقة بالواقع الذي يعيش فيه , إذ لا يلتفت الإنسان إلى الماضي إلا لحاجة في التكيف , إذ حاول برغسون إثبات أن الحوادث السابقة لا تمحى , وأن الذكريات المنسية لا تتلف أبدا . ولهذا انتقد برغسون ريبو بشدة في الذاكرة المرضية .
كما أن بعض علماء النفس الحديث يرجعون ظاهرة النسيان إلى بعض العوامل كعامل الترك والضمور فاختفاء بعض الذكريات يكون نتيجة تركنا لها نظرا لعدم احتياجاتنا إليها , فالإنسان يتذكر ما يلائمه وينفعه ويفيده , فالتذكر اختيار , وبناء على ما سبق يكون النسيان ظاهرة عادية تعيشها الذاكرة لا حالة سلبية .
لكن لا يمكن اعتبار كل نسيان حالة عادية , فقد ينسى الإنسان بعض الحوادث التي هو في أمس الحاجة إليها ولا يمكن اعتبار ذلك إلا حالة سلبية تعيق الإنسان في نشاطه .
النسيان من طبيعة الذاكرة :
إن الإنسان الذي يشتكي من زوال المعلومات والآثار الماضية والذي يأسف عن عدم قدرته في استرجاع بعض الذكريات الجميلة , فيصف ذاكرته بالخائنة هو الإنسان الذي يشعر بحاجة في نسيان ما تم اكتسابه من معارف و خبرات ماضية حتى يفسح المجال لذاكرته في تحصيل علوم جديدة , وهو الذي يشعر برحمة النسيان في تجاوزه لآثار الذكريات المؤلمة والحقد و الكراهية التي تعتري الحياة الاجتماعية للناس , وهكذا لا يعتبر النسيان حالة مرضية وسلبية دائما , كما لا يعتبر حالة عادية وطبيعية دائما .
فالذاكرة السليمة ليست تلك الذاكرة التي يصيبها النسيان و إنما الذاكرة التي تنتقي موضوعاتها فتحتفظ بما هو ضروري لها وتطرح الباقي جانبا فتكسب قدرة جديدة على الحفظ والاسترجاع .
إن النسيان ظاهرة تفترضها طبيعة الذاكرة فهو شرط من شروط توازنها وسلامتها , والحكم على النسيان بأنه نقيض الذاكرة حكم ساذج فالنسيان ليس نفيا للذاكرة و لا نقيضا لها في جميع الأحوال , فلولا النسيان لما استطاع الإنسان أن يتكيف مع المواقف الجديدة وهذا لا يعني أن النسيان حالة إيجابية دائما بل قد يكون سلبيا ومعيقا لصاحبه متى كان مرضيا .
هل الإبداع ظاهرة فردية خاصة ؟
إن الإبداع في اصطلاح الفلاسفة له عدة معان أهمها تأسيس الشيء عن الشيء أي تأليف شيء جديد من عناصر موجودة سابقا مثلما هو الحال في الفنون والعلوم , ومما لا شك فيه أن ظاهرة الإبداع ترتبط بدور الفرد من خلال فعالية تخيله في تصور النقائص التي بإدراكها تحصل فكرة الإبداع ومن ثمة فإن الإبداع ينشأ في ذهن إنسان له فرديته الخاصة وشخصيته المميزة باستعداداته وقدراته الفطرية والمكتسبة . فإذا كان الإبداع إجراء يرتبط بشخصية الفرد فهل الشروط الذاتية وحدها كافية لحصول عملية الإبداع ؟ بمعنى آخر إذا كان من المؤكد أن الشروط النفسية تؤثر في عملية الاختراع فهل يمكن رد هذه العملية إلى هذه الشروط وحدها ؟
الإبداع يعود إلى تأثير العوامل النفسية :
ينظر بعض الفلاسفة العلماء إلى الإبداع على أنه ظاهرة خاصة توجد لدى بعض الأفراد دون غيرهم . لأن الأحوال النفسية والعقلية من ميول و رغبات ومواهب هي التي تدفع بالفرد إلى الإبداع بدليل أن العباقرة يمتازون بخصائص نفسية وعقلية تمكنهم من تجاوز ما يعجز عنة الآخرون . فقد حلل " فرويد " ظاهرة الإبداع بردها إلى الأعمال اللاشعورية فالعمل المبدع في نظره تعبير عن الرغبات المكبوتة التي تتحقق عن طريق الخيال بمعنى أن معظم عناصر تخيلاتنا تتجمع في اللاشعور , وتختزن الصورة المبدعة في الذهن ثم تنبثق دفعة واحدة في شكل الهام , حيث يقول " نيوتن " في هذا الصدد : " وإنني لأضع بحثي نصب عيني دائما و انتظر حتى يلمح الإشراق الأول علي شيئا فشيئا لينقلب إلى نور جلي " كما يقول " بوانكاري " : " أن الحظ يحالف النفس المهيأة " ويقول " برغسون " : " أن العظماء الذين يتخيلون الفروض رسمية والأبطال و القديسين الذين يبدعون المفاهيم الأخلاقية , لا يبدعونها في حالة جمود الدم , و إنما يبدعون في جو حماسي وتيار ديناميكي تتلاحم فيه الأفكار " . وهي أدلة تدل على أن لعملية الإبداع أصول نفسية .
حقيقة أن الإبداع تجسيد لما يختلج في النفس من معان وصور , إذ لا يمكن إنكار دور الذات في عملية الإبداع . ولكن الذات تتأثر بالمحيط الاجتماعي فلا إبداع من العدم مما يعني حاجة الذات تتأثر بالمحيط الاجتماعي فلا إبداع من العدم مما يعني حاجة الذات إلى الشروط الاجتماعية الملائمة .
الإبداع يعود إلى تأثير العوامل الاجتماعية :
ينظر بعض الفلاسفة والعلماء إلى الإبداع على انه ظاهرة اجتماعية كون المبدع يستمد مادة إبداعه من المجتمع , مما يجعل الإبداع له ارتباط وثيق بالحياة العامة وخاصة الاجتماعية , فالحاجة الاجتماعية ومتطلباتها هي التي تدفع الإنسان إلى الإبداع ولذا يقال : " الحاجة أم الاختراع " بمعنى أن الحاجة تعتبر مشكلة اجتماعية تتطلب حلا وهو ما يدفع بالمبدع إلى التفكير .
وهكذا يكون نشاط المبدع عبارة عن ظاهرة اجتماعية , في نظر " دوركايم " الذي يرى أن الإبداع مهما تعددت مجالاته تتحكم فيه شروط اجتماعية فالمبدع سواء كان فنانا أو عالما لا يبدع لنفسه وإنما يبدع وفق ما يحتاج إليه المجتمع وحسب ما يسمح به المجتمع ... فالمجتمعات تبارك الإبداعات العلمية الموجهة لأغراض سلمية وتعاقب أو تذم الإبداع العلمي الموجه إلى أغراض حربية . وهذا يبين أن المبدع يوجه إبداعه إلى معالجة المشاكل التي تعترض مجتمعه , ولعل هذا ما عناه " ريبو " بقوله : " مهما كان الإبداع فرديا فإنه يحتوي على نصيب اجتماعي " . وهي آراء تدل على أن المبدع يستقي مادته الإبداعية من الواقع الاجتماعي الذي يعيشه .
حقيقة ظاهرة الإبداع تعود إلى الحوافز الاجتماعية وطبيعة الواقع الاجتماعي ولكن رغم توفر الشروط الاجتماعية الملائمة ووجود الحاجة الدافعة للإبداع إلا أنه لا يمكن لكل أفراد المجتمع أن يبدعوا وهذا يدل على تدخل عوامل وشروط أخرى مرتبطة بالذات المبدعة .
الإبداع يعود إلى تأثير العوامل الذاتية والاجتماعية معا :أن الإبداع يعود بالدرجة الأولى إلى حيوية المبدع وما يتمتع به من خصائص نفسية وعقلية كتظافر الوظائف النفسية من ذكاء , وتخيل , وذاكرة . وتوفر الميول الكافية من رغبات وآمال , بالإضافة إلى تمتع صاحب الإبداع بنوع من الحس المبدع الخاص كما أن المبدع يستمد عناصر إبداعه من المجتمع فالوسط الاجتماعي الملائم من حاجات وظروف و أفكار ة تطور علمي وثقافي حافز على الإبداع . فظهور جل القوانين العلمية في أوروبا لا غير دليل على دور البيئة الاجتماعية .
إن الإبداع ليس مجرد إلهام مفاجئ يحظى به بعض الأفراد في المجتمع بل هو ظاهرة فردية تضرب بأعماق جذورها في الحياة الاجتماعية التي منها يأخذ المبدع مادته , فالإبداع يستمد حيوته من ميول الفرد ويستمد مادته من حاجة المجتمع , وعليه فالإبداع يكون بالتكامل بين الشروط الاجتماعية و الشروط الذاتية .
هل يمكن التفكير بدون لغة ؟
إن علماء النفس يطلقون معنى اللغة على مجموع الإشارات التي يعبر بها عن الفكر , فنحن عندما نتحدث مع الغير فإنه من الواضح أننا نطلق بألفاظ نرتبها حسب المعنى , وعندما نتحدث لأنفسنا لا ننطق بألفاظ ولكننا نرتب المعاني حسب الصورة المنطوقة مما يبدو معه أن كل تفكير يحتاج إلى تعبير و أن كل تعبير يحتاج إلى تفكير , إلا أن مسألة اللغة والفكر ظلت موضوع سوء تفاهم بين الفلاسفة والعلماء فهل يمكن قيام فكر بدون لغة ؟ بمعنى آخر هل اللغة والفكر منفصلان عن بعضهما أم أنهما مظهرين لعملية نفسية واحدة ؟
اللغة والفكر منفصلان عن بعضهما :
يذهب أصحاب الاتجاه إلى التمييز بين اللغة والفكر , ويفصلون بينهما فصلا واضحا , ويعتبرون أن الفكر سابق اللغة وأوسع منها , لأن الإنسان يفكر بعقله أولا ثم يعبر بلسانه ثانيا , لذلك قد تتزاحم الأفكار في ذهن الإنسان ولكنه يعجز عن التعبير عنها مما يجعل اللغة عائقا للفكر ولعل هذا ما يدفع بالإنسان إلى الاستعانة بالإشارات لتوضيح أفكاره أو اللجوء إلى وسائل بديلة للتعبير اللغوي كالرسم والموسيقى وغيرهما . وهذا ما أكده " برغسون " حين قال : " اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر " . بمعنى أن تطور المعاني أسرع من تطور الألفاظ , فالمعاني بسيطة متصلة بينما الألفاظ مركبة منفصلة , ويقول " فاليري " ( أحد الشعراء الفرنسيين ) : " أجمل الأفكار هي تلك التي لا نستطيع التعبير عنها " . بمعنى أن اللغة عاجزة عن إبراز المعاني المتولدة عن الفكر إبرازا كاملا . فلا يمكنها أن تجسد كل ما يختلج في نفس الإنسان .
وهكذا فالنتيجة التي ينتهي إليها أصحاب الاتجاه الثنائي أن الفكر واللغة منفصلات عن بعضها فالقدرة على التفكير لا تعني بالضرورة القدرة على التعبير مما يؤدي إلى عدم التناسب بين القدرة على الفهم والقدرة على التبليغ .
لكن الإنسان يشعر بأنه يفكر ويتكلم في آن واحد , والواقع يبين أن التفكير لا يتم بدون لغة . فالفكر بدون لغة مجرد شعور .
لا يمكن الفصل بين اللغة والفكر :
يذهب أصحاب الاتجاه الواحدي إلى عدم التمييز بين اللغة والفكر فهم لا يفصلون بينهما ولا يرون وجود فرق بينهما بل يرون أنه لا يمكن أن يوجد فكر بدون لغة , كما لا توجد لغة من دون فكر . فاللغة ليست مجرد أداة للتبليغ والتعبير بل هي الأساس الذي يقوم عليه التفكير ومن بين الفلاسفة الذين يؤكدون على وجود وحدة عضوية بين اللغة والفكر الفيلسوف الألماني " هيغل " الذي يرى أن الكلمة تعطي للفكر وجوده الأسمى و أن الرغبة في التفكير بدون كلمات لمحاولة عديمة المعنى , كما أن اللغة عند " جون لوك " هي علامات حسية تدل على الأفكار الموجودة في الذهن , وهذا يعني أن هناك تطابقا بين الفكرة ودلالة الألفاظ . كما يقول ستالين : " مهما كانت الأفكار التي تجيء إلى فكر الإنسان فإنها لا تستطيع أن تنشأ وتوجد إلا على مادة اللغة " . وقد أشار " أرسطو " إلى هذا بقوله : " ليس ثمة تفكير بدون رموز لغوية " .
وهكذا فإن أصحاب الاتجاه الواحدي يخلصون إلى نتيجة مفادها أن اللغة والفكر كل موحد و أن العجز الذي توصف به اللغة فهو عجز في التفكير و أن عدم التناسب بين القدرة على الفهم والقدرة على التبليغ يعود إلى عجز المتكلم عن إيجاد الألفاظ المناسبة للفكرة .
لكن الإنسان يشعر بعجز اللغة عن مسايرة الفكر , فالأدباء على الرغم من امتلاكهم لثروة لغوية كبيرة يعانون من مشكلة التعبير والتبليغ كما يشعر الإنسان أيضا بخطورة اللغة على الفكر أحيانا مثلما في حالة سوء التفاهم .
لا فكر بدون لغة ولا لغة بدون فكر :
لقد حاول الكثير من الفلاسفة من خلال آرائهم التوفيق بين الفكر واللغة , فلا فكر بدون لغة ولا لغة بدون فكر , وقد عبر عن هذا التلاحم بين اللغة و الفكر " مير لوبونتي " بقوله : " إن الفكر لا يوجد خارج الكلمات " . بينما يقول دولاكروا : " اللغة تصنع الفكر والفكر يصنع اللغة " . وهكذا يبقى على الإنسان الاعتناء بلغته وتطويرها حتى تتمكن من مواكبة الفكر واللحاق به فاللغة السليمة تعبر بصدق عن الفكر .
نستنتج مما سبق أن اللغة والفكر شيئان متداخلان ومتكاملان , وإن كانت بينهما أسبقية فهي منطقية لا زمنية , وإن كان بينهما تمييز فهو نظري لا مادي وقد عبر عن هذه العلاقة " هاملتون " بقوله : " إن المعاني شبيهة بشرار النار لا تومض إلا لتغيب فلا يمكن إظهارها وتثبيتها إلا بالألفاظ " . كما يقول زكي نجيب محمود :
" الفكر هو التركيب اللفظي أو الرمزي لا أكثر و لا أقل " . وعليه فكل تفكير يتطلب لغة .
هل المادة الرياضيات علم عقلي بحت ؟
تختلف المادة الرياضيات عن العلوم الحسية في كونها تستمد موضوعها من التصورات الذهنية الإنشائية لقضايا مجردة تتعلق بالمقادير الكمية في حين أن العلوم الأخرى تقوم على وصف الأشياء الواقعية الحسية الموجودة فعلا . و هذا يجعل المادة الرياضيات لا تبحث في موضوعاتها من حيث هي معطيات حسية بل من حيث هي رموز مجردة مجالها التصور العقلي البحت فإذا كان مدار البحث الرياضي هو المفاهيم أو المعاني أو الرموز الرياضية فهل هذه المعاني أشياء ذهنية من ابتكار العقل لا غير ؟ أو بمعنى آخر هل المادة الرياضيات إبداع عقلي خالص لا صلة لها بالتجربة الواقعية ؟
المادة الرياضيات علم عقلي لا صلة له بالواقع :
يرى أنصار الاتجاه العقلي والمثالي أن مبادئ المعرفة فطرية . وأن المفاهيم الرياضية موجودة في العقل قبليا (أي قبل التجربة) فعملية الجمع , و الخط المستقيم والمثلث هي معاني رياضية حاصلة في العقل بالفطرة . وقد حاول أفلاطون في محاورة مينون – وهو عبد جاهل للهندسة استطاع أن يكتشف بنفسه كيف يمكن إنشاء مربع – إثبات أن العلم قائم في النفس بالفطرة , والتعلم مجرد تذكر له وليس اكتسابا من الواقع , وهو ما نجده عند ديكارت بمعنى يختلف عن أفلاطون قليلا حيث أن المعاني الفطرية ليست واضحة بذاتها بل حاصلة في النفس بالاستعداد والقابلية . ولقد انفتحت مع ديكارت آفاق واسعة أمام المادة الرياضيات . فراحت تحلق في عالم التجريد وتشيد أبراجا ذهنية تزداد بعدا عن الواقع الحسي , فالأعداد الكسرية , و الدائرة ... ليس لها ما يقابلها في عالم الواقع ... وقد تحولت المادة الرياضيات كلها إلى عمليات جبرية لا تخضع إلا لقواعد المنطق حتى كادت أن ترد إليه . كما أن الفكر العربي قد اعتبر الموضوعات الرياضية موضوعات عقلية يتم استخلاصها عن طريق عمليتي التجريد والتعميم وفي هذا يقول الفارابي :" علم العدد النظري يفحص عن الأعداد على الإطلاق ... وإن الهندسة النظرية إنما تنظر في خطوط وسطوح و أجسام على الإطلاق والعموم " ... كما كانت للعرب إبداعات عديدة في هذا الميدان حتى أن البعض منها ما يزال ذا صلة باسم مخترعيه مثلا اللوغاريتم الذي يرتبط باسم الرياضي العربي الشهير الخوارزمي وهو مخترع علم الجبر .
لكن المادة الرياضيات بمفاهيمها المختلفة وبكل ما تتمتع به من تجريد إلا أنها ليست مستقلة عن المعطيات الحسية , فالدراسات المتتبعة للفكر الرياضي تكشف جوانبه التطبيقية .
المادة الرياضيات علم يرتبط بالواقع وينطلق منه :
يذهب أنصار الاتجاه الحسي أو التجريبي إلى أن التفكير الرياضي كان مرتبطا بالواقع و أن الحضارات الشرقية القديمة استخدمت طرقا رياضية في مسح الأراضي الزراعية وفي الحساب فكانت المادة الرياضيات وليدة الملاحظة و التجربة , فالهندسة في مصر القديمة نشأت على صورة فن المساحة , كما أن البابليين استخدموا الهندسة والحساب في تنظيم الملاحة والفلاحة والري .
وهكذا نلاحظ أن المادة الرياضيات كانت في الأصل تجريبية خاضعة لتأثيرات صناعية عملية و أن الأساس الذي بنى عليه اليونان صرحهم الرياضي النظري هو المادة الرياضيات العملية التي عرفتها الحضارات الشرقية القديمة . و لعل هذا ما دفع " جون لوك " إلى الرد على ديكارت بأنه لا وجود لمعاني فطرية في النفس لأن الأطفال والبله والمتوحشين لا يعرفونها . كما يؤكد " كوندياك " على أن الإحساس هو المنبع الذي تنبجس منه جميع قوى النفس . مما يعني أن بداية المادة الرياضيات كانت بداية حسية انطلاقا من تعامل الإنسان مع الأشياء التي تحيط به كالعد بالأصابع أو الحصي وترتيب الأشكال ثم تدرج شيئا فشيئا في تجريد الأعداد والأشكال فاكتسبت هذه الأخيرة صورتها المجردة فاستخرج الإنسان قوانينها فأصبحت علما نظريا , وعليه يكون فن المساحة العملي قد سبق علم الهندسة النظري , وفن الآلات قد سبق علم الميكانيك . فاهتدى الفكر البشري بصورة عملية إلى معرفة خواص الأشكال والآلات قبل أن يتوصل إلى البرهان عليها .
لكن التصورات التي تربط كلا من الهندسة والحساب بالتطبيقات العملية والحاجات الاجتماعية تختلف اختلافا جذريا عن التصور الجديد للعلم الرياضي الذي أصبح موضوعه ماهيات ذهنية تتمتع بالاستقلال التام عن الواقع .
المادة الرياضيات مشخصة قبل أن تكون عقلية :
إن المادة الرياضيات كعلوم عقلية نظرية قامت في الأصل على أمور مادية تجريبية ثم تمكن العقل بعد ذلك من تجريدها وانتزاعها من مادتها تدريجيا فأصبحت عقلية خالصة . فعالم الهندسة اليوم لا يهمه أن يكون المثلث الذي يبحث فيه من الخشب أو الحديد بل الذي يعنيه هو المثلث الذي تصوره و عرفه ووضع له مفهوما يصدق على كل مثلث . وفي هذا الصدد يرى جون بياجي أن المادة الرياضيات عبارة عن نشاط إنشائي وبنائي يقوم به العقل ويعطي التجربة صورتها وخلال ذلك يتهيكل هذا النشاط في حد ذاته . بمعنى أن العقل لا يحتوي على أطر مسبقة بل فيه قدرة على الإنشاء . كما يقول جورج سارطون : " إن المادة الرياضيات المشخصة هي أولى العلوم الرياضية نشوءا , فقد كانت في الماضي تجريبية ثم تجردت من هذه التأثيرات فأصبحت علما عقليا " .
إن الواقع الحسي كان منطلق التفكير الرياضي , فلم يدرك العقل مفاهيم المادة الرياضيات في الأصل إلا ملتبسة بلواحقها المادية , و لكن هذا التفكير تطور بشكل مستمر نحو العقلية الخالصة إذ انتزع العقل مادته وجردها من لواحقها حتى جعل منها مفهوما عقليا محضا مستقلا عن الأمور الحسية التي كانت ملابسة له وبهذا أصبحت المادة الرياضيات بناء فكري يتم تشييده بواسطة فروض رسمية يقع عليها الاختبار رائع دون النظر إلى صدقها أو كذبها في الواقع , بل الصدق الوحيد المطلوب هو خلو هذا البناء من أي تناقض داخلي وعليه فالمادة الرياضيات علم عقلي.
هل للمادة التاريخ مقعدا بين العلوم الأخرى ؟
إن العلوم الإنسانية هي مجموع الاختصاصات التي تهتم بدراسة مواقف الإنسان وأنماط سلوكه , وبذلك فهي تهتم بالإنسان , من حيث هو كائن ثقافي , حيث يهتم علم النفس بالبعد الفردي في الإنسان ويهتم علم الاجتماع بالبعد الاجتماعي , ويهتم المادة التاريخ بالبعدين الفردي والاجتماعي معا لدى الإنسان , فالمادة التاريخ هو بحث في أحوال البشر الماضية في وقائعهم وأحداثهم وظواهر حياتهم وقال عنه ابن خلدون : " انه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم , وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال " ... وبناء على هذا فإن الحادثة المادة التاريخية تتميز بكونها ماضية ومن ثمة فالمعرفة المادة التاريخية معرفة غير مباشرة لا تعتمد على الملاحظة ولا على التجربة الأمر الذي يجعل المؤرخ ليس في إمكانه الانتهاء إلى وضع قوانين عامة والعلم لا يقوم إلا على قوانين كلية وعلى هذا الأساس فهل هذه الصعوبات تمنع المادة التاريخ من أن يأخذ مكانه بين مختلف العلوم الأخرى ؟ أو بمعنى آخر هل خصوصية الحادثة المادة التاريخية تمثل عائقا أمام تطبيق الأساليب العلمية في دراستها ؟ أي هل الاعتراض على القول بان المادة التاريخ علم له ما يبرره ؟
المادة التاريخ ليس علما وحوادثه لا تقبل الدراسة العلمية :
يذهب بعض المفكرين إلى أن الحوادث المادة التاريخية لا تخضع للدراسة العلمية لأن الخصائص التي تقوم عليها الحادثة المادة التاريخية تمثل عائقا أمام تطبيق الأساليب العلمية في دراستها , ومن هذه الخصائص أن الحادثة المادة التاريخية حادثة إنسانية تخص الإنسان دون غيره من الكائنات , واجتماعية لأنها لا تحدث إلا في مجتمع إنساني فالمؤرخ لا يهتم بالأفراد إلا من حيث ارتباطهم وتأثير في حياة الجماعة , وهي حادثة فريدة من نوعها لا تتكرر , محدودة في الزمان والمكان ... وبناء على هذه العوائق التي تقف أمام تطبيق الدراسة العلمية في المادة التاريخ قامت اعتراضات أساسية على القول أمام تطبيق الدراسة العلمية في المادة التاريخ قامت اعتراضات أساسية على القول بأن المادة التاريخ علم منها : انعدام الملاحظة المباشرة للحادثة المادة التاريخية كون حوادثها ماضية وهذا على خلاف الحادث العلمي في الظواهر الطبيعية فإنه يقع تحت الملاحظة المباشرة , ثم استحالة إجراء التجارب في المادة التاريخ وهو ما يجعل المؤرخ بعيدا عن إمكانية وضع قوانين عامة , فالعلم لا يقوم إلا على الأحكام الكلية كما يقول أرسطو : " لا علم إلا بالكليات " . هذا بالإضافة إلى تغلب الطابع الذاتي في المعرفة المادة التاريخية لأن المؤرخ إنسان ينتمي إلى عصر معين ووطن معين ...الخ , وهذا يجعله يسقط ذاتيته بقيمها ومشاغلها على الماضي الذي يدرسه ثم إن كلمة علم تطلق على البحث الذي يمكن من التنبؤ في حين أن نفس الشروط لا تؤدي إلى نفس النتائج وبالتالي لا قدرة على التنبؤ بالمستقبل في المادة التاريخ .
إنه مما لا شك فيه أن هذه الاعتراضات لها ما يبررها من الناحية العلمية خاصة غير أنه ينبغي أن نؤكد بأن هذه الاعتراضات لا تستلزم الرفض القاطع لعملية المادة التاريخ لأن كل علم له خصوصياته المتعلقة بالموضوع وبالتالي خصوصية المنهج المتبع في ذلك الموضوع فهناك بعض المؤرخين استطاعوا أن يكونوا موضوعيين إلى حد ما وان يتقيدوا بشروط الروح العلمية .
المادة التاريخ علم يتوخى الوسائل العلمية في دراسة الحوادث الماضية :
يذهب بعض المفكرين إلى القول بأن الذين نفوا أن تكون الحوادث المادة التاريخية موضوعا للعلم لم يركزوا إلا على الجوانب التي تعيق الدراسة العلمية لهذه الحوادث فالظاهرة المادة التاريخية لها خصوصياتها فهي تختلف من حيث طبيعة موضوعها عن العلوم الأخرى , وبالتالي من الضروري أن يكون لها منهج يخصها . وهكذا أصبح المؤرخون يستعملون في بحوثهم منهجا خاصا بهم وهو يقترب من المنهج التجريبي ويقوم على خطوط كبرى هي كالآتي :
أ- جمع المصادر والوثائق : فبعد اختيار الموضوع يبدأ المؤرخ بجمع الوثائق والآثار المتبقية عن الحادث فالوثائق هي السبيل الوحيد إلى معرفة الماضي وفي هذا يقول سنيويوس : " لا وجود للمادة التاريخ دون وثائق , وكل عصر ضاعت وثائقه يظل مجهولا إلى الأبد " .
ب- نقد المصادر والوثائق : فبعد الجمع تكون عملية الفحص والنظر و التثبت من خلو الوثائق من التحريف والتزوير , وهو ما يعرف بالتحليل المادة التاريخي أو النقد المادة التاريخي وهو نوعان : خارجي ويهتم بالأمور المادية كنوع الورق والخط .. وداخلي و ￿ه￿م ￿المضمون كتفسير محتوب￿ض￿اص و تحديد م￿ناه الحقيقي وهنا فإن المؤرخ مدعو لأن يعيش روح العصر الذي يدرسه . وفي هذا يقول ابن خلدون عن المادة التاريخ : " فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبيت يفيضان بصاحبهما إلى الحق ... لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ... فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم و الحيد عن جادة الصدق ".
ج- التركيب الخارجي : تنتهي عملية التحليل إلى نتائج جزئية مبعثرة يعمل المؤرخ على تركيبها في إطارها الزمكاني فيقوم بعملية التركيب مما قد يترتب عن ذلك ظهور فجوات مادة التاريخية فيعمل على سدها بوضع فروض رسمية مستندا إلى الخيال والاستنباط ثم يربط نتائجه ببيان العلاقات التي توجد بينهما وهو ما يعرف بالتعليل المادة التاريخي . وهكذا فإن المؤرخ في طلبه للحقيقة يتبع منهجا خاصا لأن الظاهرة المادة التاريخية تختلف من حيث طبيعة موضوعها عن العلوم الأخرى وعليه فالمادة التاريخ علم يتوخى الوسائل العلمية للتأكد من صحة حوادث الماضي .
انه مما لا شك فيه أن علم المادة التاريخ قد تجاوز الكثير من الصعوبات التي كانت تعوقه وتعطله ولكن رغم ذلك لا يجب أن نبالغ في اعتبار الظواهر المادة التاريخية موضوعا لمعرفة علمية بحتة , كما لا يجب التسليم بأن الدراسات المادة التاريخية قد بلغت مستوى العلوم الطبيعية بل الحادث المادة التاريخي حادث إنساني لا يستوف كل شروط العلم .
المادة التاريخ علم من نوع خاص :
إن للحادثة المادة التاريخية خصائصها مثلما للظاهرة الحية أو الجامدة خصائصها وهذا يقتضي اختلافا في المنهج وهذا جعل من المادة التاريخ علما من نوع خاص ليس علما استنتاجيا كالمادة الرياضيات وليس استقرائيا كالمادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية و إنما هو علم يبحث عن الوسائل العلمية التي تمكنه من فهم الماضي وتفسيره وعلى هذا الأساس فإن القول بأن المادة التاريخ لا يمكن أن يكون لها علما لأنه يدرس حوادث تفتقر إلى شروط العلم أمر مبالغ فيه , كما أن القول بإمكان المادة التاريخ أن يصبح علما دقيقا أمر مبالغ فيه أيضا وعليه فإن الحوادث المادة التاريخية ذات طبيعة خاصة , مما استوجب أن يكون لها منهجا خاصا بها . وبالتالي فالمادة التاريخ علم يحدد موضوعه الخاص ويتبع في ذلك منهجا يتفق مع طبيعة الموضوع وهذا يؤهله لأن يكون جديرا بأن يعد من مجموع العلوم .
إن العلوم أنواع مختلفة واعتبار المادة التاريخ ليس مؤهلا لأن يكون علما صحيحا مثل المادة الرياضيات والمادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية لأن نتائجه ليست دقيقة وثابتة فهو علم يهتم بالحوادث الإنسانية ويتبع طرقا علمية في تحليلها ودراستها وإذا كانت العلوم الإنسانية لم تصب من التقدم ومن الدقة نصيبا يعادل ذلك الذي حققته المادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية مثلا فإن هذا الوضع الذي توجد عليه حاليا لا يمنع من السير نحو المزيد من التقدم والضبط . فالعلم طريقة في التفكير ونظام في العلاقات أكثر منه جملة من الحقائق . إذ يمكن للمؤرخ أن يقدم دراسة موضوعية فيكون المادة التاريخ بذلك علما , فالعلمية في المادة التاريخ تتوقف على مدى التزام المؤرخ بالشروط الأساسية للعلوم . وخاصة الموضوعية وعليه فإن مقعد المادة التاريخ بين العلوم الأخرى يتوقف على مدى التزام المؤرخين بخصائص الروح العلمية والاقتراب من الموضوعية .



https://fbcdn-sphotos-d-a.akamaihd.net/hphotos-ak-ash4/482113_236967293114455_1193518507_n.png (http://www.dzbatna.com)
©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى (http://www.dzbatna.com)©

استعمل مربع البحث في الاسفل لمزيد من المواضيع


سريع للبحث عن مواضيع في المنتدى