المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : توقعاتي + هدية



said
11-08-2013, بتوقيت غرينيتش 07:59 AM
في البداية ارحب بكم اعزائي المترشحين وادعوا الله ان يوفقكم
اتوقع لهذه السنة والله أعلم:
- اللغة والفكر (الاتجاه الاحادي والاتجاه الثنائي)
- الشعور واللاشعور
- اولوية الحق والواجب
- الحقيقة.
مع عدم استبعاد الاحساس والادراك

واليكم هذه المقالات كما حفظتها السنة الماضية


مقالة اللغة


إذا كانت الفلسفة عموما تفكيرا في الوجود الانساني، وفي الأبعاد والظواهر المختلفة التي يتضمنها هذا الوجود، فمن البديهي أن تثير اللغة - بوصفها ظاهرة إنسانية- اهتمام الفلاسفة. ولقد عُرّف الانسان بكونه حيوانا ناطقا أو متكلما، وهو نعت يقتضي ضرورة الوجود المسبق للغة، التي تتعدد خدماتها وتتنوع وظائفها: فهي تفيد التبليغ، وتسمح بتحقيق التواصل، وكذلك التعبير عما يخالج الذات. إلّا أنّ كثيرا ما تنتاب المرء فكرة أو إحساس يتأخر أو يعجز عن إيجاد التعبير المناسب له، كما يحدث له في أحيان أخرى أن يفكر تفكيرا داخليا صامتا، ومن هذا المنطلق، فقد شغلت العلاقة بين اللغة والفكر بال فلاسفة اللغة وعلمائها؛ فاعتقد البعض منهم أن هناك تطابق مطلق بينهما، ولاوجود لأفكارٍ لا تستطيع اللغة التعبير عنها، واعتقد آخرون أن هناك انفصال بين اللغة والفكر، مما يلزم عنه إمكانية تواجد أفكار تعجز اللغة عن التعبير عنها وتوصيلها للغير، فهل يمكن فعلا أن تكون هناك أفكار بدون لغة؟ بمعنى آخر: هل يمكن ان توجد افكار خارج حدود اللغة؟

عرض الاطروحة: يرى أنصار الاتجاه الثنائي، أنه لا يوجد تطابق وتناسب بين عالم الافكار وعالم الالفاظ، فالفكر أسبق من اللغة وأوسع منها، وأنّ ما يملكه الفرد من أفكار ومعان يفوق بكثير ما يملكه من ألفاظ وكلمات، فاللغة والفكر منفصلان، واللغة ليست سوى أداة، وأداة قاصرة لا تخدم الفكر إلا جزئيا، بل هي على ما يرى برغسون تحجب الفكر والواقع.

الحجة: يميز أفلاطون (428ق.م،347ق.م) بين عالمين موجودين هما: عالم المثل وهو العالم الحقيقي، عالم الفكر والمعقولات والحقائق المطلقة الكاملة، وبين عالم المحسوسات وهو عالم يأتي في المرتبة السفلى، لأنه عالم أشباه الحقائق والظلال (المحسوسات والعالم المادي). أما اللغة فهي معبرة عن عالم الأشياء المحسوسة، وهكذا يعطي أفلاطون الأسبقية للفكر على اللغة، فللفكر أسبقية أنطولوجية (وجودية) على اللغة أي أنه سابق في الوجود عليها، فمستودع الأفكار عند افلاطون هو عالم المثل، فالأفكار المطلقة توجد في هذا العالم بدون كلمات لأن اللغة تنتمي إلى عالم المحسوسات، وبالتالي فاللغة ليست سوى أداة للتعبير عن فكر سابق عليها.
واعتبر ديكارت (1650- 1596) الفكر واللغة من طبيعتين متناقضتين، كل منهما يشكل كيانا قائما بذاته مستقلا عن الآخر، فالفكر جوهر روحي خاصيته الوحيدة هي التفكير، بينما اللغة مظهرها مادي (الصوت، الكتاب كاملة) لذلك فهي في خدمة الفكر، وهي التي تنتجه. ولذلك فالعلاقة بينهما هي علاقة انفصال واستقلال، والأسبقية هنا للفكر.
أما شوبنهاور (1860-1788) فقد اعتبر أن الفكر منفصل تمام الانفصال عن اللغة، فالأفكار تموت لحظة تجسدها في كلمات، وهذا ما يبرر استقلالية الفكر عن اللغة.
يقول برغسون: وهو أحد أنصار الاتجاه الثنائي: "ليست الموضوعات الخارجية و حدها هي التي تختفي عنا، بل إن حالاتنا النفسية هي الأخرى لتفلت من طائلتنا بما فيها من طابع ذاتي شخصي حي أصيل". وقال أيضا: "وحينما نشعر بمحبة أو كراهية أو حينما نحس في أعماق نفوسنا بأننا فرحون أو مكتئبون، فهل تكون عاطفتنا ذاتها هي التي تصل إلى شعورنا؟".
فالإنسان كثيرا ما يدرك كماً زاخراً من المعاني والافكار تتزاحم في ذهنه، وفي المقابل لا يجد إلّا ألفاظا محدودة لا تكفي لبيان هذه المعاني والافكار. كما قد يفهم أمرا من الامور ويكوّن عنه صورة واضحة بذهنه وهو لم يتكلم بعد، فإذا شرع في التعبير عما حصل في فكره من أفكار عجز عن ذلك. كما قد يحصل أن نتوقف – لحظات – أثناء الحديث أو الكتاب كاملة بحثا عن كلمات مناسبة لمعنى معين، أو نقوم بتشطيب أو تمزيق ما نكتبه ثم نعيد صياغته من جديد... وفي هذا المعنى يقول برغسون: «إننا نملك أفكارا اكثر مما نملك اصواتا» .
وقد تؤدي الألفاظ إلى قتل المعاني وتجمد حيويتها وحركتها، بينما المعاني مبسوطة ممتدة وغير نهائية بل تتطور أسرع من الألفاظ، فالفكرة أغنى من اللفظ إذ يمكن التعبير عنها بألفاظ مختلفة، بينما الألفاظ معدودة ومحدودة، بل قيمتها لا تكون إلا من خلال ما تنطوي عليه من معان ومفاهيم وتصورات.
وفي الاتجاه نفسه يشتكي المتصوفة عجز اللغة عن التعبير عما يعيشونه من حقائق، فيبدو لنا ما يقولونه مجرد شطحات تعارض النصوص الشرعية. فهذا الحلاج كان يقول: "ليس في الجبة إلاّ الله". وهذا البسطامي يقول: "سبحاني ما أعظم شأني" وربما هذا ما قصده فاليري في قوله :"إن أجمــــل الأفكار هي تلك التي لا نستطيع التعبير عنها" .
النقد: لكن القول أن الفكر أوسع من اللغة وأسبق منها ليس إلّا مجرد افتراض وهمي، فإذا كنا ندرك معانٍ ثم نبحث لها عن ألفاظ ما يبرر أسبقية الفكر على اللغة، فإنّ العكس قد يحدث أيضا، حيث نردد ألفاظ دون حصول معانٍ تقابلها وهو ما يعرف في علم النفس بـ "الببغائية"، أفلا يعني ذلك أن اللغة أسبق من الفكر؟
وحتى لو سلمنا جدلا بوجود أسبقية للفكر على اللغة فإنها مجرد أسبقية منطقية لا زمنية؛ فالإنسان يشعر أنه يفكر ويتكلم في آنٍ واحد. والواقع يبيّن أن التفكير يستحيل أن يتم بدون لغة؛ فكيف يمكن أن تتمثل في الذهن تصورات لا اسم لها؟ وكيف تتمايز الافكار فيما بينها لولا اندراجها في قوالب لغوية؟ ثم لو كانت اللغة عاجزة عن التعبير عن جميع أفكارنا فالعيب قد لا يكون في اللغة، بل في مستعملها الذي قد يكون فاقدا لثروة لغوية تمكنه من التعبير عن أفكاره .
هذا الرأي بالغ في تمجيد الفكر والتقليل من شأن اللغة، الأمر الذي جعل الفكر نشاطا أخرسا، وهذه النتيجة لا تؤكدها معطيات علم النفس الذي أثبت أن الطفل يتعلم الفكر واللغة في آن واحد، لذلك قال هيغل: "نحن نفكر داخل الكلمات"، وإلى نفس الاتجاه ذهب غوسدروف حيث قال: "التفكير ضاج بالكلمات".
نقيض الاطروحة :وعلى خلاف الرأي السابق، يذهب أنصار الاتجاه الاحادي، إلى أن هناك تناسب بين الفكر واللغة، وعليه فعالم الافكار يتطابق مع عالم الالفاظ، أي أن معاني الافكار تتطابق مع دلالة الالفاظ، ولا وجود لأفكار خارج إطار اللغة، فبين اللغة والفكر اتصال ووحدة عضوية وهما بمثابة وجهي العملة النقدية غير القابلة للتجزئة، باعتبار «أن الفكر لغة صامتة واللغة فكر ناطق .«
الحجة: إن الطرح اللساني المعاصر مع دوسوسير (1857-1913) يؤكد على العلاقة الوظيفية بين اللغة والفكر، ذلك أنه لا تقتصر وظيفة اللغة تجاه الفكر في تقديم أداة صوتية مادية تتيح له أن يظهر وينكشف فحسب، بل توفر له أيضا إمكانية أن يتجزأ أو ينقسم، ويتخذ لنفسه شكلا وهيئة. يقول دوسوسير: "اللغة شبيهة بورقة، الفكر وجهها والصوت قفاها" ويقول زكي نجيب محمود: "الفكر هو التركيب اللفظي أو الرمزي لا أكثر ولا أقل".
إن اللغة إذن هي الشكل الوحيد لوجود الفكر، إنهما (اللغة والفكر) وجهان لعملة واحدة مترابطان ومتلاحمان، بحيث لا يمكن تصور الفكر خارج اللغة. فالأفكار تبقى عديمة المعنى في ذهن صاحبها ما لم تتجسد في الواقع، ولا سبيل الى ذلك إلّا ألفاظ اللغة التي تدرك إدراكا حسيا، فاللغة – إذن – هي التي تبرز الفكر من حيز الكتمان إلى حيز التصريح، ولولاها لبقي كامنا عدما، لذلك قيل: «الكلمة لباس المعنى ولولاها لبقي مجهولا .«
يرى ميرلوبونتي (1908-1961) أنه ليس للفكر باطن، لأنه ليس من شأن الفكر أن يوجد خارج الألفاظ. فالمعنى يسكن اللفظ، والفكر لابد أن يتجسّد في عبارات. إن اللغة في نظر ميرلوبونتي ليست مجرد لباس خارجي للفكر، بل هي حضور للفكر نفسه في صميم العالم المحسوس. فالفكر والكلام يتكونان في آن واحد، وهما عملية ذهنية واحدة، تتم دفعة واحدة. ولا يمكن اعتبار الكلام مجرد علامة على وجود الفكر، مثلما الأمر بالنسبة لعلاقة الدخان بالنار، وهو ما نفهم منه رفض ميرولوبونتي بقول أسبقية الفكر على اللغة ورفض العلاقة الانفصالية بينهما.
اللغة والفكر حسب لاكروا متعاصران (متزامنان)، ولا يمكن تصور فكر قبل اللغة، حيث يقول: "إن الفكر تصنعه اللغة إذ يصنع اللغة".
ثم إن الملاحظة المتأملة وعلم النفس يؤكدان أنّ الطفل يولد صفحة بيضاء خاليا تماما من أي افكار، ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه اللغة، أي أنه يتعلم التفكير في نفس الوقت الذي يتعلم فيه اللغة. وعندما يصل الفرد الى مرحلة النضج العقلي فإنه يفكر باللغة التي يتقنها، فالأفكار لا ترد الى الذهن مجردة، بل مغلفة باللغة التي نعرفها، كما قال ستالين "مهما كانت الافكار التي تجيئ الى فكر الانسان، فإنها لا تستطيع ان تنشأ وتوجد إلاّ على مادة اللغة". وأنه حسب هيجل "أي محاولة للتفكير بدون لغة هي محاولة عديمة الجدوى، فاللغة هي التي تعطي للفكر وجوده الاسمى والاصح".
كما أن اللغة تصبغ الفكر بصبغة اجتماعية موضوعية تنقله من طابعه الانفعالي الذاتي، ليصير خبرة انسانية قابلة للتحليل والفهم والانتقال بين الناس، والنتيجة أن العلاقة بين اللغة والفكر بمثابة العلاقة بين الروح بالجسد، الأمر الذي جعل "هاملتون" يقول : « إن الالفاظ حصون المعاني . «
النقد: لكن ورغم ذلك، فإنه لا وجود لتطابق مطلق بين اللغة والفكر، بدليل ان القدرة على الفهم تتفاوت مع القدرة على التبليغ، من ذلك مثلا أنه اذا خاطبنا شخص بلغة لا نتقنها فإننا نفهم الكثير مما يقول، لكننا نعجز عن مخاطبته بالمقدار الذي فهمناه، كما أن الادباء - مثلا - رغم امتلاكهم لثروة لغوية يعانون من مشكلة في التبليغ.
التركيب: وعلى ضوء ما سبق، ومهما تحفظ البعض من مسألة التوحيد بين اللغة والفكر واعتبارهما شيئا واحدا، وبالرغم من أن اللغة قد تقصر أحيانا عن التعبير عن الأفكار بناء على أن قدرتنا على الفهم لا تناسب دائما قدرتنا على التبليغ، إلا أنه لابد من التسليم بوجود علاقة ترابط بين الفكر واللغة، وهذا ما تؤكده الدراسات والأبحاث العلمية اللسانية، وهذه العلاقة تشبه العلاقة بين وجه الورقة النقدية وظهرها، حيث أن الفكر هو وجه الصفحة، بينما الصوت هو ظهر الصفحة، ولا يمكن قطع الوجه دون أن يتم في الوقت نفسه قطع الظهر، وبالتالي لا يمكن، في مضمار اللغة، فصل الصوت عن الفكر، أو فصل الفكر عن الصوت.
حل المشكلة: الاختلاف في تحديد طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر هو دليل وجود اشكالية في هذا الموضوع، والمهم هو توحيد الجهود بغية فهم هذه العلاقة، ولا فائدة من استمرار الجدل العقيم من أجلها، لأن اكتشاف طبيعة هذه العلاقة سوف يعطي معرفة أرقى، ووجود أسعد للإنسان، وذلك هو الهدف المنشود.



مقالة الشعور


طرح المشكلة: عرّف بعض المفكرين والفلاسفة القدماء الإنسان بأنّه "حيوان عاقل" يميّز الخير من الشرّ. فإذا كان للحيوان نفس حيوانية محرّكة لبدنه، فللإنسان بالإضافة إلى ذلك نفس إنسانية تتميّز بالعقل الذي يجرّد المحسوسات فتصبح أفكارًا. والإنسان بواسطة الشعور يدرك الصور المجردة (الأفكار) ويدرك ذاته، ويدرك أنّه يدرك. ولذلك، فقد كان هذا الشعور مركز اهتمامات علماء النفس التقليديين.
بات واضحًا أنّ فكرة اللاشعور بقيت مجهولة، بل مرفوضة من علماء النفس التقليديين ردحًا طويلاً من الزمن. ذلك أنّ الشعور كان يشكّل الموضوع الوحيد لعلم النفس، غير أنّ بعض الظواهر النفسية الخارجة عن إطار الشعور، كالنوم والنسيان والتصرّف الآلي، أدّت إلى افتراض وجود اللاشعور. وقد بدأ هذا المفهوم يتردّد على ألسنة بعض الفلاسفة مثل لايبنز ولاروشفوكو، وروسو وماركس وغيرهم.
عرض الاطروحة: اعتبر علم النفس التقليدي أن الشعور هو الموضوع الوحيد القابل للدراسة عند الإنسان، ولا يوجد شيء اسمه لا شعور عند هؤلاء، وكل ما هو لا شعوري هو بيولوجي مثل نمو الشعر والأظافر. وقد كان ديكارت أول فيلسوف جعل من الأنا المفكّر موضوعاً فلسفياً، فالأنا المفكر هو الشعور عند الإنسان الذي يسمح له بأن يعرف بأنه موجود. يقول ديكارت : (1650- 1596) "لا توجد حياة أخرى خارج النفس إلاّ الحياة الفيزيولوجية"، ويقول مين دو بيران (1766،1824) "لا توجد واقعة يمكن القول عنها انها معلومة دون الشعور بها" وهـذا كله يعني ان الشعور هو أساس الحياة النفسية، وهو الاداة الوحيدة لمعرفتها، ولا وجود لما يسمى بـ " اللاشعور ."
الحجة :يعتمد أنصار هذا الموقف على حجة مستمدة من "كوجيتو ديكارت" القائل: "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، وهذا يعني أن الفكر دليل الوجود، وأن النفس البشرية لا تنقطع عن التفكير إلا إذا انعدم وجودها، وأن كل ما يحدث في الذات قابل للمعرفة، والشعور قابل للمعرفة فهو موجود، أما اللاشعور فهو غير قابل للمعرفة ومن ثـمّ فهو غير موجود .
اذن لا وجود لحياة نفسية لا نشعر بها، فلا نستطيع أن نقول عن الانسان السّوي أنه يشعر ببعض الاحوال ولا يشعر بأخرى مادامت الديمومة والاستمرار من خصائص الشعور .ثـم إن القول بوجود نشاط نفسي لا نشعر به معناه وجود اللاشعور، وهذا يتناقض مع حقيقة النفس القائمة على الشعور بها، فلا يمكن الجمع بين النقيضين الشعور واللاشعـور في نفسٍ واحدة، بحيث لا يمكن تصور عقل لا يعقل ونفس لا تشعر .
وأخيرا، لو كان اللاشعور موجودا لكان قابلا للملاحظة، لكننا لا نستطيع ملاحظته داخليا عن طريق الشعور، لأننا لا نشعر به، ولا ملاحظته خارجيا لأنه نفسي، وما هو نفسي فهو باطني وذاتي. وهذا يعني أن اللاشعور غير موجود، وما هو موجود فعلا فهو الشعور .
النقد :ولكن الملاحظة ليست دليلا على وجود الأشياء، حيث يمكن أن نستدل على وجود الشيء من خلال آثاره، فلا أحد يستطيع ملاحظة الجاذبية أو التيار الكهربائي، ورغم ذلك فآثارهما تجعلنا لا ننكر وجودهما، ثم إن التسليم بأن الشعور هو أساس الحياة النفسية وهو الاداة الوحيدة لمعرفتها، معناه جعل جزء من السلوك الانساني مبهما ومجهول الاسباب، وفي ذلك تعطيل لمبدأ السببية، الذي هو أساس العلوم
عرض نقيض الاطروحة: بخلاف ما سبق، يذهب الكثير من أنصار علم النفس المعاصر، إلى أن الشعور وحده ليس كافيا لمعرفة كل خبايا النفس ومكنوناتها، كون الحياة النفسية ليست شعورية فقط، لذلك فالإنسان لا يستطيع – في جميع الاحوال – أن يعي ويدرك أسباب سلوكه.
وقد تمكّن مفهوم اللاشعور أن يفرض رائع نفسه نهائيًا مع "سيغموند فرويد "(1856 - 1939)، الذي بنى نظرية متماسكة تنطلق من اللاشعور لتصل إلى التحليل النفسي، مُقدّمة بذلك خدمات كبرى لعلم النفس. وهذا ما دفع بالفيلسوف وعالم النفس الأميركي وليام جيمس إلى القول: "إنّ اللاشعور هو أهمّ اكتشاف حصل في القرن التاسع عشر". يقول فرويد: "اللاشعور فرض رائعية لازمة ومشروعة .. مع وجود الادلة التي تثبت وجود اللاشعور". فالشعور ليس هـو النفس كلها، بل هناك جزء هام لا نتفطن – عادة – إلى وجوده رغم تأثيره المباشر على سلوكاتنا وأفكارنا وانفعالاتنا ..
الحجة: عاش فرويد في المجتمع النمساوي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين في ظلّ العائلة الأبوية الضاغطة، تبيّن له من خلال مرضاه وهم من الطبقة البرجوازية، أنّ أكثر المواضيع مقترحة و رسمية المكبوتة كانت متعلّقة بالحياة الجنسية، فحيث أنّ الغريزة الجنسية نادرًا ما تجد إشباعًا كافيًا، فإنّها تصطدم بسرعة بالذات العليا، وتعود هذه الغريزة بحسب فرويد إلى مراحل الطفولة وخلال الحياة الجنينية، فهي بهذا المعنى مردودة إلى الشهوانية الجنسية المنتشرة في عموم الجسد (La Libido) والتي تبحث عن اللذة الحسيّة بمعناها العام.
فشخصية الإنسان تتكون عند فرويد في ما قبل سن السادسة، لذلك فإن معرفة حوادث الطفولة هي المدخل لتحليل شخصية ونفسية الراشد. قال الشاعر "وارد وورس" "الطفل هو أب الرجل". لأن الهدف الرئيسي من التحليل النفسي هو تذكر الماضي المكبوت في اللاشعور ورده إلى الشعور. وقد لاحظ فرويد مع شريكه "بروير" أن مرضاه المصابين بالهستيريا يشفون عندما يتذكرون حادثة معينة جرت معهم، وقد كانت الطريقة المتبعة قبل فرويد هي التنويم المغناطيسي، حيث كان المريض أثناء نومه يفضح بعض الذكريات التي لا يتذكرها أثناء وعيه .أطلق فرويد على هذه الطريقة اسم التطهيرية.
رفض فرويد طريقة التنويم المغناطيسي لأن نتائجها غير أكيدة، ولأنها تسحق شخصية المريض. فاعتمد طريقة جديدة وهي التحليل النفسي التي تقضي بأن ينام المريض على أريكة ويبدأ بالتداعيات الكلامية دون أن يقاطعه الطبيب وصولاً إلى اكتشاف المريض للحدث المؤلم عندها يشفى، على الطبيب أن يحلل كلام المريض ويوجهه. وفي حال عدم تذكر المريض للحدث، كان الطبيب يلجأ إلى بعض الظواهر مثل: زلات اللسان، الأفعال التائهة (الناقصة)، النسيان والأحلام التي قال عنها فرويد "الأحلام هي حارسة النوم" كما أعطى فرويد أهمية للمرحلة الأوديبية التي يتعلق فيها الصبي بأمه ويتماهى بأبيه فيقلده، ويرغب بأن يحل محله والعكس عند الفتاة.
أما أدلر (1937-1870) فيقلّل من أهمية الغريزة الجنسية التي تحدّث عنها فرويد، ويؤكّد على الحاجة إلى إثبات الذات. إنّ أصل الأمراض النفسية ليس في مشكلة جنسية بقدر ما هو في إحساس بالنّقص، هكذا كانت غراميات دون جوان (Don Juan) تعويضًا عن تشوّه عضوي في قدمه، فيكون وراء الجنسية المادية رغبة نفسية هي إثبات الذات والقدرة على السيطرة.
جاء يونغ (1961-1875) فقسّم الناس إلى قسمين: المنفتح على الآخرين والمنطوي على ذاته، كما اكتشف يونغ أنّ لا شعورنا محكوم بمواضيع مقترحة و رسمية خرافية عن الآلهة والعمالقة والوحوش والسحرة والذئاب الكاسرة. فإنّ لا شعورنا الفردي المكوّن من تجاربنا الشخصية يغوص أيضًا في مادة التاريخ النفس البشرية ويحمل أيضًا همومها: النزاعات، الحروب، الثورات، المجاعات، الأوبئة. إنّ جميع هذه الكوارث التي نزلت بالبشرية تنعكس أيضًا في لا شعورنا الفردي من حيث أنّنا ننتمي دائمًا إلى ثقافة وعرق، ثم إلى البشرية عامّةً في كلّ زمانٍ ومكان (لاشعور جماعي أو عام)، ويبقى اللاشعور العام غارقًا في اللاشعور الفردي.
كما اخترع المحللون بعد فرويد طرقا لاكتشاف اللاشعور أشهرها الاختبار رائعات والروائز، مثل روائز الإسقاط عند رورشاخ،و روائز البناء كتركيب قطع والألعاب للصغار.
النقد: إنه منهج ثوري، لقي ردّات فعل، لكنّه أكّد فعاليته فصحّح وأكمل كثيرًا من المفاهيم النفسية. لكنّ الخطأ هو في تحويل هذا المنهج إلى نظرية (نظرية اللاشعور) تدّعي تفسير جميع مظاهر الثقافة الإنسانية من علوم وفنون ومذاهب وفلسفات وتقنيات، وجميع حقائق السلوك وقيمه من أنظمة حكم وقواعد أخلاقية...، ما هي إلاّ تعابير مختلفة عن المكبوت الجنسي اللاشعوري. وبالتالي فهناك استحالة للبحث عن جذور فنّية أصيلة.
من هنا لحقت بنظرية التحليل النفسي تهمة المادية، لأنّها لا ترى في الفنون سوى الجانب المادّي الذي يردّ أصل هذه الفنون إلى غرائز مكبوتة وخصوصًا الجنسية منها. قد يناسب هذا النوع من التفسير أشخاصًا في ظروفٍ خاصّة بهم، لكنّه لا يستوعب الحقيقة الفنية والعلمية والدينية للنفس الإنسانيّة. فإنّ التحليل النفسي لا يفسّر من الفن سوى أقلّ ما فيه من فنّ، ولا يمكن أن يفسّر فروقات العبقرية بين فنّان وآخر؛ ولا أن يتفهّم التسامي الأخلاقي والديني الأصيل، فإنّ هذه الأصالة لا تُفهَم إلاّ بالعودة إلى غير جذور الغرائز المادية. فعلينا هنا الرجوع إلى الميول الروحية عند الإنسان.
كما أنّ تفسير القاعدة المادية للسلوك يشكو من تجاهل لعناصر كثيرة تؤثّر في الشخصية كالعناصر الاجتماعية العامة والعرقية والمادة التاريخية والثقافية، فهذه عناصر أهملها فرويد. فإذا صحّ هذا المنهج لمعالجة الحالات المرضية، فلن تكون نظرية كافية لشرح مفصل الشخصية ولفهم الإنسان.
التركيب: يتضح إذن من خلال ما سبق، أن الحياة النفسية تتأسس على ثنائية متكاملة قوامها الشعور واللاشعور؛ الشعور بحوادثه وأحواله التي بدونها لا يتأتى للإدراك وسائر الوظائف العقلية الأخرى أن تتفاعل فيما بينها أو مع العالم الخارجي، واللاشعور بمخزونه المتنوع كرصيد ثري يمكّن في آن واحد من استكشاف مادة التاريخ الفرد وكذا تقويم سلوكه.
وبذلك فانه لا ينبغي النظر دائما إلى الشعور على أنه ساحة صراع بين متناقضات، بل بوصفه آلية للتوازن والتكيف والمعرفة، ولا إلى اللاشعور باعتباره سجنا لرغبات مكبوتة قد تعصف بكيان الشخصية، وإنما كطاقة يمكن توجيهها نحو الابداع العلمي والفني.
حل المشكلة : وهكذا يتضح، أن الانسان يعيش حياة نفسية ذات جانبين: جانب شعوري يُمكِننا ادراكه والاطلاع عليه من خلال الشعور، وجانب لاشعوري لا يمكن الكشف عنه إلاّ من خلال التحليل النفسي، مما يجعلنا نقول أن الشعور وحده غير كافٍ لمعرفة كل ما يجري في حياتنا النفسية .



مقالة الحق والواجب



قيل: "قبل أن نطالب الناس بواجباتهم علينا أن نمكنهم قبل كل شيء من حقوقهم"،
طرح المشكلة: جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس"، ولفظ الحق في الحديث ورد بمعنى الواجب، وذلك لما بين الحق والواجب من ترابط. وقد اعتقد بعض الفلاسفة بسبب هذا الترابط أن أداء الواجبات هو شرط لنيل الحقوق، وبالتالي يكون الواجب أسبق من الحق وأولى منه. وتحديد هذه الأطروحة يتعارض مع الأطروحة التي يقترحها الموضوع للمناقشة والتي تقول: "قبل أن نطالب الناس بواجباتهم علينا أن نمكنهم قبل كل شيء من حقوقهم"، مما يلزم عنه أن الحق أولى من الواجب وأسبق منه، وهذه المشكلة تدفعنا إلى التساؤل التالي: هل إعطاء الحقوق أولى وأسبق من أداء الواجب، أم العكس؟
محاولة حل المشكلة:
عرض الأطروحة: الحق أسبق من الواجب وهو الذي يؤسسه، فقبل أن نطالب الناس بواجباتهم علينا أن نمكنهم قبل كل شيء من حقوقهم، لأن الحق سابق لكل واجب.
الحجة: وما يؤكد ذلك أن فلاسفة القانون الطبيعي على اختلافهم، يقرون بأن العدالة تقتضي أن تتقدم فيها الحقوق على الواجبات، فمادة التاريخ حقوق الانسان مرتبط بالقانون الطبيعي الذي يجعل من الحقوق مقدمة للواجبات، كون الحق معطى طبيعي، يقول الفيلسوف الألماني وولف (1679-1754) في كتاب كامل القانون الطبيعي: "كلما تكلمنا عن القانون الطبيعي لا نبغي مطلقا قانونا طبيعيا، بل بالأحرى الحق الذي يتمتع به الانسان بفضل ذلك القانون". أما ظهور الواجب فقد ارتبط بضرورة الحياة الجماعية داخل الدولة. فسلطة الدولة حسب فلاسفة القانون الطبيعي مقيدة بقواعد هذا الأخير، الأمر الذي يبرر أسبقية الحق على الواجب.
أما الفيلسوف الانجليزي جون لوك (1632-1704) فيرى أنه لما كانت الحقوق الطبيعية ترتبط ارتباطا وثيقا بالقوانين الطبيعية، وكانت الواجبات ناتجة عن القوانين الوضعية، أمكن القول أن الحق سابق للواجب من منطلق أن القوانين الطبيعية سابقة للقوانين الوضعية. كون المجتمع الطبيعي سبق المجتمع السياسي، فإن الحقوق الطبيعية بمثابة حاجات بيولوجية يتوقف عليها الوجود الإنساني، كالحق في الحرية والحق في الحياة والحق في الملكية، ذلك أن جميع الواجبات ستسقط إذا ضاع حق الفرد في الحياة. يقول جون لوك: "لما كانت الحقوق الطبيعية حقوقا ملازمة للكينونة الانسانية، فهي بحكم طبيعتها هذه سابقة لكل واجب".
وقد جاء أيضا في المادة الثالثة من إعلان حقوق الانسان والمواطن الصادر عن الثورة المادة الفرنسية عام 1789م والذي تأثر بفلاسفة القانون الطبيعي، أن "هدف كل جماعة سياسية هو المحافظة على حقوق الانسان الطبيعية التي لا يمكن أن تسقط عنه، هذه الحقوق هي الحرية والملكية والأمن، ومقاومة الاضطهاد".
النقد: إن فلاسفة القانون الطبيعي وحتى المنظمات الدولية لحقوق الانسان أقروا الحقوق وقدسوها، وفي المقابل تجاهلوا الواجبات، وفي ذلك إخلال بتوازن الحياة. كما أن إقرار هؤلاء حقوقا مقدسة للفرد أهمها أحقيته في الملكية؛ إنما هم يدافعون بقصد أو بغير قصد عن حقوق الأقوياء بدل حقوق الضعفاء، على اعتبار أن الملكية غير متيسرة للجميع؛ بقدر ما تكون حكرا على الطبقة الحاكمة، لأن طغيان الحقوق على الواجبات في مجتمع ما يؤدي إلى تناقضات واضطرابات.
عرض نقيض الأطروحة: وخلافا لما سبق، يرى العقلانيون وعلى رأسهم الألماني كانط (1724 - 1804)، والوضعيون وعلى رأسهم الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي أوغست كونت (1798-1857)، يرون أن للواجب أسبقية منطقية وأفضلية أخلاقية على الحق، وأنه من الضروري أن يبدأ الناس بأداء واجباتهم كي يحق لهم المطالبة بحقوقهم.
الحجة: إن الفلسفة العقلية تضع الواجبات في المقام الأول ولا تعير اهتماما للحقوق، لأن فكرة الواجب لذاته (بالمعنى الذي يحدده كانط)، يبرر أسبقية الواجبات على الحقوق، فعندما أعين ضعيفا أو أساعد عاجزا على اجتياز الطريق؛ أرى أن ذلك من واجبي لكنني لا أشعر أنه حقا له علي، كما أنني لا أنتظر مقابلا من هذا العمل، مما يعني أنه واجب منزه عن كل حق.
أما بالنسبة إلى أوغست كونت وتماشيا مع نزعته الوضعية التي تتنكر لكل ميتافيزيقا، فيرى أنه لو أدى كل فرد واجبه لنال الجميع حقوقهم، لأن حق الفرد هو نتيجة لواجبات الأخرين نحوه، وهذا يعني أن تحديد الواجب سابق لإقرار الحق.
كما أن على الفرد واجبات، وليس له أي حق بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، لأن مجرد مطالبة الفرد بحق؛ فكرة منافية للأخلاق، لأنها تفترض مبدأ الفردية المطلق، والأخلاق في حقيقتها ذات طابع اجتماعي. يقول أوغست كونت: "إن مراعاة الواجب ترتبط بروح المجموع".
النقد: إن الطرح الذي قدمته كل من الفلسفة الكانطية والفلسفة الوضعية يهدم العدالة من أساسها، كونه يبترها من مقوم أساسي تقوم عليه؛ ألا وهو الحق، فكيف يمكن وافعيا تقبل عدالة تغيب فيها حقوق الناس؟ كما أن مادة التاريخ التشريعات الوضعية التي يدافع عنها كونت تبطل ما ذهب إليه، فلا يوجد قانون وضعي يفرض رائع الواجبات على الأفراد دون أن يقر لهم حقوقا.
التركيب: نلخص إذن من كل ما تقدم، أنه إذا كان لفرد ما حق، فعلى الآخر واجب إشباع هذا الحق، فحق الفرد في استخدام ملكيته يتضمن واجب جيرانه في عدم التعدي على تلك الملكية، وإذا كان للفرد حق، فمن واجبه استخدام هذا الحق في الصالح العام لمجتمعه بما يكفل للفرد كرامته وللمجتمع انسجامه. إن هذا التناسب بين الحقوق والواجبات هو الذي يحقق العدل، لأن أي طغيان لطرف على حساب آخر؛ ينتج الظلم والجور والاستغلال، وهذا التكافؤ بين الحقوق والواجبات هو العدل بعينه، وما العدل في حقيقته إلا تعادل وفي تعادل لا سبق لأحد الطرفين ولا قيمة لهذا السبق، ومن ثم الحق يكمله الواجب ليحدث ذلك التوازن و التعادل.
حل المشكلة: ومن هذا التحليل يمكن القول أن مشكلة أولوية الحق أو الواجب ليست مشكلة حقيقية ولا واقعية، لأن العدالة لا تتحقق إلا بهما ومن خلالهما دون رجحان أحدهما على الآخر. ولأن الحق هو عينه واجب والواجب هو الوجه الآخر للحق فإن حق الحياة – الذي هو حق طبيعي – هو في الوقت ذاته واجب الحفاظ على هذه الحياة في شخصك و في شخص الآخرين، وهذه الوحدة بين الحق والواجب وحدها تساعدنا على فهم حكم المنتحر في الإسلام، ولماذا شدد عليه الشرع واعتبر المنتحر في النار.



مقالة الحقيقة


هل الحقيقة هي مطابقة الحكم للواقع؟
طرح المشكلة: كانت نظرية أرسطو القائلة أنّ الأرض هي مركز الكون تعتبر حقيقيّة، وقد استنبط أرسطو نظريته من القياس المنطقي، لكن منذ القرن السادس عشر قال كوبرنيك وغاليلي بخلاف هذا، أي أنّ الأرض ليست سوى كوكب يدور حول الشمس، وأنّ نظريّة أرسطو ليست حقيقيّة لأنّها تخالف ما تثبته الملاحظات والقياسات الواقعة. ويوحي هذا أنّ الحقيقة يُحتكم فيها إلى الواقع، وهذا يدفعنا إلى التساؤل، هل فعلاً تكون المعرفة حقيقيّة عندما تقول ما يقرّه الواقع؟
محاولة حلّ المشكلة:
الأطروحة: يذهب التجريبيون إلى ردّ جميع معارفنا إلى الواقع، ومن ثمّ فهم يعتبرون الاحتكام إلى هذا الواقع هو المعيار الدقيق للحقيقة. وعلى هذا النحو لا تكون الحقيقة ثابتة ولا مطلقة، وعلماء الطبيعة المعاصرون قالوا بمبدأ المطابقة مع الواقع أيضا، بل إنّ فكرة التجريب لديهم تقوم على التسليم الضمني أو التصريح بمعيار المطابقة للواقع كأساس للحقيقة العلميّة.
الحجة: لأنّ جميع أفكارنا، تتطوّر وتتّسع مع ما نكتسبه من خبرة، في حياتنا اليوميّة. لقد أثبت العصر الحديث أن الحياة الواقعيّة أوسع وأشدّ ثقة وأكثر عمقاً من القياسات العقليّة، ومن أيّ منطق ساكن قائم على أساس من "الحقائق الثابتة". إنّها متدفّقة ومتغيّرة، وتفاجئ جميع القوانين بما لا تتوقّعه، وتخبرنا" أنّ عدد الأشياء التي رفض العقل أوّل الأمر الاعتراف بها، ثمّ قبلها في النّهاية، لعدد كبير جداً". ويرى الفيزيائي الفرنسي لويس دو بروي (1892، 1987) " أنّ القول بمطلقيّة القوانين وثباتها قول لا ينطبق مع الواقع المتغيّر". وأخذ أهل الوضعيّة المنطقيّة على أنفسهم ألّا يعترفوا بغير الواقع المحسوس الذي يمكن إخضاعه لمناهج الملاحظة والتجربة، واهتمّوا بالفكر باعتباره لغة يتحتّم عليها أن تنطبق مع الواقع الحسّي وواقع الأحكام المنطقيّة.
مناقشة: لكن هل واقعية الأشياء التي نتحدّث عنها كافية لضمان الحقيقة؟ فعندما نتحدّث عن الذهب الحقيقي والذهب المغشوش (نحاس مطلي بالذهب) -كما بيّن ذلك الألماني هيدغر (1889، 1976)-، فإنّنا نتحدّث عن أمرين واقعيين، أحدهما نعتبره حقيقياً والآخر ليس حقيقياً. فالذهب المغشوش ظاهره كما يبدو في الواقع غير موافق لحقيقته؛ (أي لما نعتقد أنّه هو) مع أنّ الحكم بأنّه ذهب مطابق لما يبدو عليه في الواقع.
نقيض الأطروحة: يذهب العقلانيّون إلى ردّ جميع معارفنا إلى العقل، ومن ثمّ فهم لا يعتبرون الاحتكام إلى الواقع معيارا للحقيقة. والعقل يحتضن الحقائق المحدوسة التي توفّر المنطلق الصلب والأوّل للمعرفة. ومن مميّزات هذه الحقائق التي يحكم بها العقل، أنّها كليّة صادقة صدقا ضرورياً، وسابقة لكل تجربة، لا يتطرّق إليها الشك. ومنها يستنبط العقل النتائج التي تَلزم عنها، وبهذا تتشكّل المعرفة اليقينيّة التي تصدق في كلّ زمان ومكان.
الحجة: إنّ الواقع لا يستطيع أن يعلمنا عن الحقيقة شيئاً لأنّه في تغيّر دائم، ولهذا فإنّ العقل لا يطلب الحقيقة في عالم الأشياء (أي الواقع)، وإنّما يطلبها في عالم الأفكار (وعالم المثل)، لأن هذا عالم - كما يرى أفلاطون (428 ق م، 347 ق م) - وراء الأشياء وفي هذا العالم، يعاين الفيلسوف سلسلة من المثل، الخير المطلق والجمال المطلق والدّائرة الكاملة... إنّه لعلم دائم وخالد، هو عالم الحقيقة، وما عالم الأشياء سوى أشباح وظلال. وأعلى حقيقة مطلقة في السلم مثال (فكرة) الخير. ويليه الجمال والأشكال الهندسيّة من دائرة ومثلّث ...الخ. والفضيلة الأخلاقيّة تستوجب التّخلّص من عالم الفناء بحثاً عن الحقيقة المطلقة في العالم الفوقي.
وأصحاب المذهب العقلي في الجملة لا يطلبون حقيقة الأفكار خارج الفكر ذاته، لأنّ الحكم الصادق؛ يحمل في طياته معيار صدقه، وهو الوضوح. وفي هذا المعنى، يرى الهولندي سبينوزا (1632، 1677) أنّه ليس هناك معيار للحقيقة خارج عن الحقيقة. "... فكما أنّ النور يكشف عن نفسه وعن الظلمات، كذلك الصدق هو معيار نفسه ومعيار الكذب".
ويتجلى هذا في البديهيات التي تبدو ضروريّة واضحة بذاتها، كقولك: الكّل أكبر من أحد اجزائه، أو إنّ الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين. والواضح بذاته هو ما لا يمكن البرهان عليه وليس في حاجة إلى برهان، إنّما يدرك بالحدس، ويكون خالياً من التناقض ومتميّزاً.
مناقشة: إنّ إرجاع الحقيقة كلّها إلى الوضوح، يجعلنا نلجأ إلى معيار ذاتي للحقيقة. قد نحس بأنّنا على صواب في أحكامنا على أساس البداهة والوضوح، ولكن قد يحدث أن يقف أحدنا بعد ذلك على خطئه. وقد يحدث لأحدنا أن يرى بديهياً ما يتوافق مع تربيته وميوله واتجاهاته الفكرية.
التركيب: إنّ العلاقة بين الحقيقة والواقع شديدة التداخل والتعقيد، وذلك لأنّنا نستخدم مصطلحي الحقيقة والواقع بدلالات مختلفة، يصعب حصرها في مجال واحد. فنعني بالحقيقة حيناً ماهية الشّيء وجوهره، ونعني بها حيناً آخر مطابقة الحكم لموضوعه، ونعني بها ايضاً، خلو الحكم من التناقض... أمّا الواقع فقد يستخدم للإشارة إلى أشياء العالم الخارجي كما تدركها حواسنا، مثل: "الماء عندنا هو سائل شفاف أو يأخذ لون وطعم المكان الذي يوجد فيه"، أمّا "واقع الماء عند علماء الطبيعة، هو جزيء مؤلّف من أوكسجين وهيدروجين".
ومن هذا المنطلق فإنّ حصر معيار الحقيقة في المطابقة مع الواقع، أو في الوضوح، هو مخالف للحقيقة ذاتها. لا ننكر أن تكون هناك بعض الحقائق التي تتحدّد على أساس مطابقة الحكم للواقع، لّكن حقائق أخرى تحسب على أساس المنافع التي نجنيها من هذا الواقع أو ذاك، وبعضها الآخر يتحدّد على أساس الوضوح أو الذوق أو الايمان، وذلك لأنّ الحقيقة لم تعد يُنظر إليها على أنّها مطلقة، بل حتّى المطلقة منها؛ هي مطلقة بالنسبة لمجال محدّد أو لمذهب محدّد. فالحديث عن الحقيقة الدّينيّة أو الحقيقة الفلسفيّة المطلقة، تكون مطلقة بالنسبة لمعتنقي هذا الدّين أو ذاك، ولمنتحلي هذا المذهب الفلسفي أو ذاك، أمّا خارجهما، فهذه الحقيقة ذاتها تصبح نسبيّة، أي صالحة ومطلقة بالنسبة لهؤلاء دون غيرهم من معتنقي ديانات أو مذاهب فلسفيّة أخرى.
ألا ترى أنّه بالنسبة للمسلم، فالايمان بالله يستوجب تنزيهه عن الوالد والولد، والمسلم يعتقد بهذا على أنّه حقيقة مطلقة، أمّا المسيحي فالحقيقة المطلقة عنده أنّ المسيح هو إبن الله، وقد ضحى بنفسه من أجل الانسان.
حل المشكلة: وعليه فإذا كانت الحقيقة كما نفهمها في العصر الحديث هي نسبيّة، وأنّ المطلق منها هو نسبي بوجه من الوجوه، فإنّنا نستطيع القول أنّنا أصبحنا نتحدّث عن حقائق، لا عن حقيقة واحدة، بعضها يقوم على المطابقة، وبعضها على الوضوح، وغيرهما على الذوق ... وهكذا. ومن هذا التحليل، يتضح أنّ مسألة معيار الحقيقة لا يمكن إدراكه إلّا ضمن مشكلة الحقيقة ككلّ (طبيعة المعرفة، الحقيقة المطلقة والنسبيّة، مشكلة المعيار). إذن الحقيقة لا يمكن اختزالها إلى مجرّد مطابقة الحكم للواقع، لأن هذه المطابقة ليست سوى بعض صور هذه الحقيقة.



https://fbcdn-sphotos-d-a.akamaihd.net/hphotos-ak-ash4/482113_236967293114455_1193518507_n.png (http://www.dzbatna.com)
©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى (http://www.dzbatna.com)©

استعمل مربع البحث في الاسفل لمزيد من المواضيع


سريع للبحث عن مواضيع في المنتدى