المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القانون الطبيعي و القانون الوضعي



linnou
11-08-2013, بتوقيت غرينيتش 06:27 AM
الفصل الأول: القانون الطبيعي



1/ مبادئ القانون الطبيعي



2/ نقد القانون الطبيعي

1/ مبادئ القانون الطبيعي
إذا قلنا القانون الوضعي. فإننا نعني به ذلك القانون الذي وضعه المشرعون (أنى كانوا) لينفذ على شعب معين في زمن معلوم. بينما حين نقول: القانون الطبيعي فإننا نقصد: ذلك القانون الّذي لم يشرعه البشر. وهو فوق قوانين البشر؛ وموجود في طبيعة الأشياء وفي فطرة الإنسان وإنما ينبغي على الإنسان أن يسعى لاكتشافه ليطبق قوانينه الموضوعية عليه.
ما هو هذا القانون الطبيعي وكيف يصبح ملزماً؟ هناك خلاف عريض في ذلك إلا انه منذ أقدم العصور ذهب الفلاسفة إلى وجود مثل هذا القانون (بالرغم من اختلافهم في طبيعته وفي تفاصيله). فقد بين سقراط وأفلاطون ذلك والمدرسة الرواقية رأت أن سعادة الإنسان تتمثّل في إتباع القانون الطبيعي، والعالمي، ولا بد أن تذوب الدول في حكومة عالمية واحدة تابعة لذلك القانون. حيث يكون كل فرد مواطناً لها. أما سيسرون، الفقيه القانوني في الإمبراطورية الرومانية، فقد اعتمد على القانون، والعدالة الطبيعية، واعتقد انه ذلك القانون الفطري في كل مكان وفي كل زمان. وان الذي يتمرّد عليه، فإنما يتهرّب من نفسه. وإنما تحترم القوانين الوضعية إذا تطابقت مع ذلك القانون الطبيعي311.
وفي وحي الديانة المسيحية اعتقد توماس داكن ـ الفيلسوف المسيحي ـ على ثلاثة مصادر للقانون، الله والطبيعة والإنسان.
وهذا شأن كثير من الفلاسفة المسلمين. حيث اعتبروا العقل مصدراً أعلى للتشريع لأنه يكتشف تلك القوانين العليا الموجودة في الطبيعة 312.
وهكذا قسّموا الأنظمة إلى نوعين، قوانين طبع، وقوانين وضع، والقسم الأول لا يتبدل باختلاف الأزمنة والأمكنة، بينما القسم الثاني الذي ينشأ من اتفاق طائفة من الناس، يختلف حسب الظروف وهي الأعراف والرسوم313.
وفي القرون الأخيرة: انتشر بين الفلاسفة، الرأي القائل بالقوانين، الطبيعية ولكن بفارقين هامين:
أولا: أنهم زعموا أن مصدر القانون الطبيعي هو العقل البشري، وليس الله سبحانه، نجد هذا القول مثلاً عند (يوفندرف) الفيلسوف الألماني و(دكارت) الفيلسوف الفرنسي.
ثانياً: إن غاية هذا القانون حماية حقوق الإنسان (الفردية منها بالذات).
حسبما يقول (جون لوك) الفيلسوف البريطاني، حين زعم أن القانون الطبيعي يفرض رائع على الجميع احترام ثلاثة قيم الملكية، الحياة، الحرية.
وهكذا انتشر مفهوم الحق الطبيعي قبيل القرن العشرين، إلى درجة جعل الجمعية الوطنية في فرنسا، تسجل في ديباجة الإعلان عن حقوق الإنسان، أن كل المآسي تنشأ من انتهاك الحقوق الطبيعية. وكرر مراراً القول عن الحق الذي لا يتبدّل باختلاف الزمان314.
والواقع: إن القانون الطبيعي لم يكن يعني ذات الحقيقة عند كل القائلين به. بل انه اختلف حسب الخلفيات الفلسفية لكل شخص أو لكل مدرسة.. فالقانون الطبيعي عند أفلاطون نشأ من نظريته في المثل. وعند أرسطو من فكرته العقلانية (ذات التوازن النسبي بين الحس والعقل، وبين المتغّيرات والثوابت) أما عند فلاسفة النصارى، فانه كان انعكاساً لإرادة الخالق سبحانه ـ وكذلك عند بعض الفلاسفة المسلمين، وسائر المتكلمين منهم.
وفي القرون الأخيرة، حدث أكثر من تطور في هذا القانون. ونشير إلى بعضها فيما يلي:
أولاً: لأن القانون الطبيعي قد وضع لمجتمع منظّم على أساس قبلي فانه لم يصمد ـ حسب رأي باوند ـ أمام تطور المجتمع واعتماده على أساس التنافس الفردي. وهكذا استفاد رجال القانون من غموض كلمة الحق التي جاءت في تفسير القانون الطبيعي (الحقوق الطبيعية) وطوّروا هذه الكلمة لتعني بعض الصفات الحسنة في الإنسان، والتي يمكن أن يصل إليها الإنسان بعقله، وهكذا استطاعوا أن يتهّربوا من جمود المبادئ الخالدة التي بشّر بها القانون الطبيعي. واعتقدوا بضرورة تطوير القانون حسب الحاجات المتغيرة التي يكتشفها الإنسان بعقله315.
وفي ذات الوقت استطاعت هذه الفكرة ضبط التغيرات المختلفة للمبادئ الخالدة، التي بشّر بها القانون الطبيعي، والّذي أدى إلى ميوعة في وضع وتطبيق القوانين.
وحسب باوند، استخدمت هذه النظرية لتضع ضابطاً ضرورياً يكبح جموح النمو والتطور الذي حرّكته فكرة القانون الطبيعي316.
ثانياً: وعندما واجه المجتمع الجديد في أميركا، والذي كان يعتزّ بحريته، واجه بعض الصعوبة في تطبيق مبادئ دستور أميركا، والتي عبرّت في زعمهم عن مبادئ القانون الطبيعي. لجأ القضاء إلى تفسير جديد للقانون الطبيعي (يختلف عن التفسير الأصلي له، والذي يعني المبادئ الخالدة) وقالوا إن المراد من الطبيعة هنا هو طبيعة الحكم، وان طبيعة الحكم في أميركا، تقضي تقليل سلطات الحكم عند الدولة إلى اقلّ قدر ممكن. وان هذه الطبيعة هي مادة جميع الدساتير هناك. وحسب باوند: فالمسألة المطروحة أمام المحاكم كانت تتعلق، بما إذا كان التشريع المعروض أمام المحكمة، يتمشى مع مبادئ القانون الطبيعي، التي هي مواد جميع الدساتير، والتي تكمن في فكرة الحكومة, ذات السلطات المحدودة، التي يقيمها شعب حرّ 317 ويضيف قائلاً: وبلغة القرن الثامن عشر يمكن القول: إن المحاكم الأميريكية قد سعت لأن تجعل القانون الوضعي ـ والتشريع على وجه الخصوص ـ يعبر عن طبيعة المؤسسات السياسية الأميركية، فهي قد سعت لتغييره وإعطاءه الشكل الملائم بحيث يحقق الشكل الأمثل، للمجتمع السياسي الأميركي318.
ثالثاً: طبيعة الإنسان إرادته الحرة والقانون الطبيعي تعبير عن هذه الإرادة. وهذا أعظم مبدأ في المبادئ الخالدة، هكذا تطور القانون الطبيعي ـ مرة أخرى ـ إلى ما يسميه (باوند) بالنظرية الميتافيزيقية والتي يمكن إقامة البرهان عليها وإثباتها ويضيف: القانون الطبيعي ما هو إلا تحليل نقدي مثالي للقانون الوضعي يمكن من خلاله وبواسطته ضمان هذه الحقوق على كمالها، فالمادة التاريخ بموجب هذه النظرية، قد اظهر لنا فكرة الحرية الفردية وكيف حققت نفسها في المؤسسات والأحكام والمذاهب القانونية319.
والفلاسفة الثلاث الذين بلوروا هذه النظرية في القانون الطبيعي هم (جون لوك) _1632-1704) البريطاني الذي يعتبر ملهم (رسو) في نظرية العقد الاجتماعي.
وعمانوئيل كانت (1724-1804) الذي قدم منهجاً لهذه النظرية، وأقام عليها أدلة فلسفية، وبالرغم من أن (كانت) اعتبر أباً للنظريات الوضعية والتجريبية، إلا انه ـ شخصياً ـ اعتبر من أصحاب النظرية الطبيعية في القانون، عندما نشر فكرة أصالة العقل، والتي بينّاها في مناسبة أخرى في هذا الكتاب كامل.
أما الفيلسوف الذي اشتهرت نظرية العقد الاجتماعي باسمه فهو (رسو)، السويسري، الذي أعطى لنظريات (لوك وكانت)، في القانون، وعلم السياسية، زخماً عاطفيا هائلاً.
وقد اعتقد (لوك) أن الإنسان ـ بذاته ـ يميل نحو التطور والعدالة، وان مبادئ القانون الطبيعي، هي التي تمنعه من الاعتداء على الآخرين. وفي المجتمع الطبيعي ينفذ كل فرد تلك المبادئ بنفسه، ولكن الاستقرار لا يتحقق في ظلّ مثل هذا الوضع، إذ يسعى الكل، لكي يكون مشرعاً وقاضياً ومنفذاً للقانون، من هنا ينبغي أن يؤسس المجتمع المدني، لتحقيق العدالة، والذي يحتاج إلى اتفاق بين أبناءه، لكي يخول كل فرد صلاحيّته وحقوقه لأغلبية أعضاء المجتمع. وبما أن القانون الطبيعي جعل كل فرد حر فانّ هذه الحرية، لا تنتقل إلى السلطة بصورة مطلقة، ومن هنا فإذا خالفت أيّة حكومة هذا القانون الطبيعي، فإنها تفقد شرعيتها320.
أما (كانت) فقد جعل الإنسان أصل القانون وجعل العقل هو الذي يكتشفه، ولكنه أكد أن العقل يحكم بالمبادئ الأخلاقية، والتي هي أيضا مبادئ سياسية، وهكذا يعتبر (كانت) مبادئ القانون، من المسبقات العقلية. التي يعرفها الإنسان بذاته، واعتبر الحرية هي من المبادئ الأساسية التي يعرفها العقل بذاته. ومن هنا فقد جعل أصل الدولة العقد الاجتماعي، وانطلاقاً من مبدأ الحرية جعل (العقد) أساس العلاقات الاجتماعية في القانون والحقوق المتبادلة بين الناس، وهكذا لا يأبه بالبحث عن عدالة العقود والاتفاقات القائمة بين الناس. ويعتبر هذا الرأي أساس القوانين الغربية، بالرغم من بعض التعديلات التي جرت عليه في مواضيع مقترحة و رسمية الإكراه والعيب وما أشبه.
وفيما يتصل بالعلاقات الدولية يرى كانت: أن الأمم لا تزال تعيش في أفق القانون الطبيعي الذي يعطي لكل امة حقوقاً لا تزول إلا بالحرب321.
والفيلسوف السياسي المعروف «رسو» استطاع ـ بقلمه الذي فاض حيويّة وعاطفة، أن يكرّس نظرية العقد الاجتماعي في عالم السياسة. ولم يكن يبحث عن مبادئ فطريته، بقدر ما كان يفتّش عن حكومة صالحة لتكريس تلك المبادئ، التي رأى الحرية أصلها. وقد انطلق (رسو) في نظريته السياسية، من مبدأ فطرة الحرية عند الإنسان، والتي لا يمكن التنازل عنها، فلا يمكن ـ مثلاً ـ أن يبيع شعب نفسه لملك جبار، لأن هذه الحرية عنوان إنسانية الإنسان، ومن هنا فيجب أن تؤسس شركة اجتماعية لإدارة الدول بصورة متساوية، لكي تنتقل حقوق الأفراد إلى شخصية معنوية (وليس إلى شخص معين) تتمثّل في حاكمية القوانين322.
حقاً هذه النظرية نفعت الشعوب، ولكنها لم تعالج جذر المشكلة، إذ أن الجبابرة استفادوا حتى من هذه النظرية في التحايل على الناس وكسب أصواتهم لأهوائهم الذاتية.

/ نقد القانون الطبيعي
القانون الطبيعي مرادف للقانون الأخلاقي. وللإيمان بعقل الإنسان، كانسان، بعيداً عن الفوارق العرقية أو الطبقية أو حتى التفاضل العلمي. وبهذا يحقق ـ أو طبق ـ أعظم انجاز إنساني، ومعروف: إن الوحي الإلهي نزل على رسل الله سبحانه، لكي يعيد الإنسان إلى فطرته أيّ عقله.
ولكن القانون الطبيعي ـ الذي يعبر عن تلك المثل العليا والمبادئ الخالدة ـ قد يتعرض لعملية الخلط، فيسوء استخدامها، كما نجد عند (هوبز)، الذي اعترف بالعقل الكلي، الذي يوجد في زعمه عند الدولة (عقل الدولة)، وكذلك عند (هيجل)، الذي نادى بتأليه الدولة، وهكذا المادية المادة التاريخية التي نجدها عند (كارل ماركس).
ومن هنا فان القانون الطبيعي، يجب أن يظل بعيداً عن الخلط، لكي يقوم بدوره في تمييز العدل الحقيقي عن العدل المزيّف، وحسب ما يقوله د. تناغو: حتى تظلّ نظرية القانون الطبيعي سالمة من كل انحراف، فيجب تحاشي كل خلط بين العقل الخالص، وبين أي عمل إنساني معين بالذات. سواء كان عقل المشرع في أي دولة، أو في الدولة السائدة، أو عقل أحد الفلاسفة، أو عقل أحد المفسرين للعقائد الدينية أو السياسية323.
وقد بحثنا في الجزء الأول من هذا الكتاب كامل: أن العقل هو ضمان فهم الحق، ووعي الوحي واستقامة الحياة، وان الرسالة الإسلامية جاءت لإيقاظ العقل البشري من سباته كما وإنها، جعلته شاهداً على تفاصيل الالشريعة الاسلامية.
ولكن الإيمان بالقانون الطبيعي لا يكفي لفهم سائر معطيات القانون وذلك لسببين:
أولا: إن القانون الطبيعي هو جملة من المبادئ الخالدة، التي يختلف فيها الناس، وقد اختصرتها المدرسة الطبيعية الحديثة، حتى وضعتها في بضع كلمات، وحسب د. «كاتزويان» لقد تركت المذاهب (الفلسفية) في القرن العشرين التطلّعات السامية، وحدّدت القانون الطبيعي في بضع قواعد عامة، واعتبرت سائر القواعد الحياتية عرضه للتغيير حسب التطورات الاجتماعية324.
وهي: القواعد التي يعترف بها الذوق السليم، والعقل، مثل احترام الحياة والحرية والكرامة واعتبرت هذه المبادئ مقبولة عقلياً ونافعة للحاجات الاجتماعية325.
أما الأستاذ (لوفور) الفرنسي، فقد حددها في ثلاث قواعد رئيسية: احترام الاتفاقات التي عقدها الإنسان بحريته. وحد الأضرار الناتجة عن فعل الإنسان واحترام القوى الاجتماعية326.
بينما نجد (استامر)، الفقيه الألماني يرى، العدالة المبدأ الأساسي، ولكنه يعتقد بأنها تختلف حسب الظروف، ويرى أن كل مجتمع بحاجة إلى أمرين: قواعد لاحترام حقوق الآخرين. وقواعد للتعاون، وان تحقيق هذين الهدفين، يختلف حسب اختلاف الزمان والمكان، ويرى: أن المبادئ التي زعم الفلاسفة أنها خالدة ليست كذلك. وإنما هي متغّيرة حسب الظروف بل الخالد هو العدالة والتطلّع لتحقيقها والتي يورث في كل مجتمع نوعاً من القوانين المناسبة327.
وعند (برجسون) الفيلسوف الفرنسي، الذي جدّد ذكريات نظريات الإشراق، يتخذ المذهب الطبيعي شكلاً جديداً، حيث يعترف بدور أساسي للعقل، ولكن حسب منهجه في الاستفادة منه فان العقل البشري جزء من النشاط الحيوي فوق المادي للإنسان، وإنما يعرف العقل الحقائق بالاندماج بها وبطريقة الاستبطان.
وعند (برجسون) هناك أنظمة وعادات وأعراف تتصل بالجانب المادي من الإنسان وهو الجانب الأدنى من العقل عنده328.
ويعتقد (برجسون) الذي سمّيت فلسفته بفلسفة الحياة، لأنه اعتبرها جوهر الوجود، يعتقد: أن المجتمع هو مصدر القسم الثاني من الأخلاق (الأدنى من العقل) والأخلاق بهذا المعنى هي مجموعة من العادات تمكن مقارنتها بغرائز الحيوانات؟ لأن أفراد المدينة يتماسكون كالخلايا في الجسم الواحد329.
أما أساس القسم الأول من الأخلاق فهو الحدس والانفعال الخلاّق لمؤسّسي ومصلحي الأديان والمتعبّدين الغامضين والقدّيسين، وهؤلاء يقومون باختراع الفنان. وهذا النوع من الأخلاق إنساني عالمي وليس فقط اجتماعياً خاصاً بجماعة معينة330.
وبالرغم من أن نظرية (برجسون) الحيوية، التي اتبعها جمع كبير من فلاسفة القانون، اعتبرت من النظريات المخالفة للمذهب الطبيعي، إلا أنها أيدت ـ بطريقة مختلفة ـ نتائج هذا المذهب، وهو وجود مبادئ عليا، يمكن للإنسان أن يكتشفها بطريقة الإشراق، وهي عامة لكل البشر.
واعتقد أن نظرية (هيسول) الأماني، التي سميّت بفلسفة الجوهر، هي الأخرى تنتهي إلى ذات النتيجة مع بعض الفروق. فان القيم عنده موجودة في عالم علوي يسمّيه بـ(مملكة القيم) والناس لا يتساوون في الاستلهام منها، لان بعضهم اقدر من بعض في وعي تلك القيم (والاتصال بتلك المملكة العليا)، وان وجود تلك القيم لا يرتبط بوجود الإنسان، بل هي خالدة في مكانها331.
ولكن (هيسول) يرى بأن هناك فارقاً بين القيمة الأخلاقية، وبين الأمر المستمد منها، فبينما الأولى أبدية خالدة، فان الثاني يمكن أن يتغير بحسب الظروف، وبحسب قدرة الإنسان على الوصول إلى مملكة القيم332.
وهكذا ـ حسب د. تناغو ـ فان فلسفة الجوهر تتّفق مع نظرية القانون الطبيعي في أن الأخلاق أبدية خالدة، ولكنها ترفض ما تقوله نظرية القانون الطبيعي من أن الأخلاق إنسانية عقلية عالمية333.
وأنّى كان فان القانون الطبيعي، يفرض رائع نفسه بين الحين والآخر بطريقة جديدة، وعبر فلسفة أخلاقية متميزة. واليوم وبعد تعرّضت هذه النظرية لكثير من الهجمات من قبل المدرسة الوضعية. لا تزال نظرية القانون الطبيعي تبدو صامدة. بالرغم من أنها قد تقلّصت كثيراً وحسب ما يقول هنري باتيفول: إن أشهر رجال القانون المدني الفرنسيين في القرنين التاسع عشر والعشرين، أمثال: اوبري، ورو، وبووان، وبلا فيول، وكولان، وكابيتان، قد تمسّكوا بهذا الحل الوسط (إن القانون الطبيعي يستطيع على الأقل، أن يقدم المبادئ العامة التي تتكيّف نتائجها مع حاجات الزمان والمكان)334.
وكلمة أخيرة:
كان القانون الطبيعي ملاذاً للمفكرين الأحرار عندما ابتلي الناس بدول ديكتاتورية ظالمة. لكي يوفّروا للناس شرعية الثورة ضد القوانين الجائرة. حيث أن النتيجة الطبيعية للاعتراف بالقانون الطبيعي، تتمثل في شرعية التمرد على أي قانون موضوع لا يتفق ومبادئ القانون الطبيعي (من العدل والحرية) وهكذا رأينا كيف انتشرت نظرية القانون الطبيعي في القرن العشرين بالرغم من انتقاد المدرسة الوضعية لها في القرن التاسع عشر.
وذلك من اجل مقاومة الحكومات الفاشية والنازية وسائر الدول الديكتاتورية الناشئة في العالم يومئذ335.
وفي العالم الإسلامي، كانت المذاهب العدلية عبر المادة التاريخ والتي آمنت بالقانون الطبيعي، وبالمبادئ الخالدة التي تبشّر بها الشرائع الإلهية ويستطيع العقل وعيها. كانت هذه المذاهب (الإمامية ـ المعتزلة) ترى شرعية الثورة ضد الدول المستبدة، بينما سائر الفرق الإسلامية، التي لم تعترف بالمبادئ العقلية كانت تهادن هذه الدول عادة.





لفصل الثاني: المذاهب الوضعية



كلمة البدء



1/ الفلسفة الوضعية والمذاهب الوضعية



2/ المدرسة المادة التاريخية



3/ المدرسة النفعية (المصلحية)



4/ المدرسة الواقعية



5/ المدرسة الديكتاتورية



6/ المدرسة الخالصة

كلمة البدء
ساهمت عوامل شتّى في تكوين وانتشار المذهب الوضعي في القانون، والذي يعتبر اليوم هو المذهب المنتشر بين الحقوقيين، كما وانه قد أثر تأثيرا حاسماً على مجمل التشريعات في العالم اليوم.
وأبرز تلك العوامل:
أولاً: طغيان الفلسفة المادية في القرن التاسع عشر. وانتشار فلسفة (أوجست كونت) الوضعية في المنطق، حيث اقتنع الكثير من العلماء، بأن دراسة الأحداث في مجالي الزمان والمكان دراسة تجريبية، أجدى من التحليلات العقلية. ولا ريب ان تقدم العلوم التجريبية في الطبيعيات زادهم إيمانا بهذا المنطق.
ثانياً: وقد آمن الكثير من الحقوقيين (لاسيّما في ألمانيا) بالمذهب المادة التاريخي الذي يجعل القانون ظاهرة شعبية، تساهم في تكوين التطورات المادة التاريخية لشعب من الشعوب، وهكذا حوّلوا اهتمامهم من التشريع القانوني إلى دراسة القوانين (الأعراف) السائدة بين الناس، وهكذا ساهم هذا المذهب في انتشار المذهب الوضعي، الذي هو الآخر جعل القانون ظاهرة حياتية، كأية ظاهرة طبيعية.
ثالثاً: وتقدّم علم الاجتماع وأخذ يدرس كل ظاهرة اجتماعية باعتبارها «حدثاً طبيعياً»، وبذات المنهج الذي يدرس به الظواهر الطبيعية تقريباً. وأورث هذا المنهج، المذهب الاجتماعي في القانون، حيث اخذوا يدرسونه باعتباره حدثاً اجتماعياً. فساهم هذا الأمر في انتشار المذهب الوضعي في القانون336.
وجملة القول: أن البيئة الثقافية العامة، في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات هذا القرن، ساهمت في تنامي المذهب الوضعي، الذي لم يعترف بالأفكار المسبقة للقانون، أو المبادئ الخالدة، التي آمن بها المذهب الطبيعي.
1/ الفلسفة الوضعية والمذاهب الوضعية
سبق أن أحد ابرز عوامل انتشار المذهب الوضعي، كانت الفلسفة الوضعية فما هي هذه الفلسفة؟.
يعتبر «بيكون» رائد هذه الفلسفة في انجلترا، وقد اتبعه الفيلسوف الفرنسي «أوجست كونت». وقد ساهمت أفكار «كانت» في نقد العقل في تطوير هذه الفلسفة، وقد انحاز إليها ـ في مجال القانون «ديجي» الذي يعتبر من كبار رجال القانون في فرنسا، وكذلك «كلسن» الذي يعتبر من كبار خبراء القانون في أميركا.
وتنكر الفلسفة الوضعية، المبادئ العامة وتهتم بدراسة الظواهر في مجالي الزمان والمكان. وهكذا تقود هذه الفلسفة إتباعها إلى القانون الوضعي، الذي يُشرع ضمن مجالي الزمان والمكان، أي ذلك القانون الموجود في دولة معينة في عصر معين، والذي يمكن دراسته عن طريق الملاحظة المباشرة.
وهكذا ولد المذهب الوضعي الذي انقسم بدوره إلى اتجاهين.
الأول: المذهب الصوري (الشكلي) الذي يعتبر القانون تعبيراً عن إرادة المشرع (وهو الدولة عادةً).
الثاني: المذهب الواقعي الذي يدرس محتوى القانون حسب العوامل لمؤثرة فيه. (اجتماعية ـ مادة التاريخية ـ اقتصادية وما أشبه)337.
وبالتالي انقسم المذهب الوضعي في القانون، إلى عدة مدارس: أبرزها المدرسة الصوريّة والمدرسة المادة التاريخية. والمدرسة النفعية.
المدرسة الإرادية:
مادة التاريخياً نجد جذر هذا المذهب عند الفلسفة الابيقورية، التي قامت على أساس اللذة وأنكرت المبادئ الأخلاقية في الحياة. وجعلت محور اجتماع الناس اتفاقهم على قانون يتعاقدون على احترامه، وهكذا جعل إرادتهم في سن هذا القانون مصدر شرعية هذا القانون338.
وفي الرومان انتشر القول «إن ما يرضي الحاكم يتمتّع بحكم القانون» وهكذا ارتبط القانون بإرادة مشرعه (الحاكم)339.
وفي القرن الأخير انتشرت فكرة العقد الاجتماعي (رسو) وهيّأت مناخاً مناسباً للمذهب الإرادي، فإذا كان العقد مصدر شرعية القانون، فأي قانون يضعه المتعاقدون بينهم فهو شرعي، ومع قطع النظر عن محتواه. وهذا ـ في الحقيقة ـ جوهر المذهب الإرادي.
والواقع: أن النظرية الإرادية ليست واحدة. إذ أن منها ما تعتبر القانون نتيجة إرادة الشعب (رسو)، ومنها ما تعتبرها صنيعة الدولة وقوّتها، حتى قال أحدهم (ييزينغ الألماني) إن القانون هو ثمرة القتال، ومنها ما تعتبرها أوامر يضعها المشرع، حيث قال (هويس) البريطاني «إن القوانين هي عبارة عن أوامر، ومهمة رجل القانون تقضي بتحليها»340.
ولكنها جميعاً تشترك في أمرين: الأول: الاهتمام بالإرادة، التي ـ من دونها ـ يصبح القانون مجرد نصيحة . والثاني: الاهتمام بشكل القانون وصياغته وترسيمه وإعطاءه صفة الأمر الثابت.
المدرسة الصوريّة:
يشمل هذا المذهب جميع الذين يصفون القانون بصفات خارجية، فمثلاً مذهب التفسير الذي شاع في فرنسا، ومذهب التحليل في أميركا وبريطانيا، هما ـ في الواقع ـ من ضمن هذا المذهب الذي كان همّهما: إبراز إرادة الشرع دون التوجه إلى محتوى القانون.
وهكذا يشترك المذهب الصوري والمذهب الإرادي في أن المذهب الصوري يفسّر ما يشرعه المذهب الإرادي…
وفي المادة التاريخ المعاصر كان «كلسن» الذي ابتدع نظرية القانون الخالص، أبرز ممثلي المذهب الصوري، بسبب منهجه الواضح، حيث حاول تصفية القانون من المتعلّقات الفرعية التي ارتبطت به، وذلك بسبب تداخله مع سائر العلوم الإنسانية (علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد وما أشبه).

وقد رأى (كلسن) أن القانون يأمر، كما يفعل المنطق وقواعد النحو والأخلاق، في حين أن علوم النظام الطبيعي تتولّى الشرح مفصل والتفسير341.
نقد المدرسة الإرادية والصوريّة:
إذا أردنا تحليل النظريات الصورية (الشكلية) والإرادية في القانون، وردّها إلى أصولها الفلسفية والفكرية يجب أن نبين الحقائق التالية:
أولا: لا يصبح القانون قانوناً إلا عند تشريعه، والتشريع ـ بدوره ـ يمر بعدة مراحل أبرزها، وضع كل مفردة قانونية (كل تشريع) في إطاره المناسب، مثل توضيح علاقته بالدستور، وبسائر القوانين القائمة على أساس الدستور، وكذلك باللوائح المستنبطة منها.
كما أن التشريع يقتضي نسبة كافية من الوضوح والثبات والدقة، لكي يوفر الفائدة المرجوة من القانون: وهي التوقع إذ أن كل شخص في المجتمع، لا بد أن ينظم نشاطه حسب ما يتوقعه من القانون، ينظم علاقة الفرد بالمجتمع، والفرد بالدولة التي تمثل المجتمع، كما ينظم علاقة الدولة بسائر أبناء المجتمع. وسواء تم انتخاب الدولة أو الانتماء إلى المجتمع عبر عقد واضح حسب نظرية (رسو) في (العقد الاجتماعي) أو تمّ الرضوخ له والتسليم لإرادته كرهاً، والذي يعتبر بدوره نوعاً من القبول والرضا. (لان رفض الانتماء أو التمّرد على السلطة إنما يكون صادقاً إذا عبّر عنه الفرد بالثورة والعصيان. وإلا فهو بالتالي يعتبر راضياً).
أقول هذا الرضا الواضح (العقد الاجتماعي والانتخاب الحر) أو الضمني (السكوت العملي) إنما ينطويان على قبول للعلاقة القائمة بين الطرفين والتي يحددها القانون.
والقانون ـ بهذا المفهوم ـ يقوم بدور الوسيط، وهذا هو الدور الأساسي للقانون كصورة وشكل، بعيداً عن المضمون والمحتوى. أي سواء كان قانوناً عدلاً أم جائراً. انه أشبه ما يكون بعقد الزواج والذي تختلف صوره ومحتوياته من شعب لآخر اختلافاً كبيراً. إلا أن المطلوب منه مجرد إنشاء علاقة ثم تكون سائر أبعاده مسائل من التعليم الثانوية نسبة إلى هذا الدور الأساسي.
ثانياً: المذهب الصوري باهتمامه بهذا الجانب الشكلي للقانون، أراد أن يصلح الجانب الأساسي للقانون، إن من ناحية علاقات بنوده ببعضه، وإن من جهة سهولة فهمه وتطبيقه، وبالتالي فهو يخدم علم القانون ـ من هذه الزاوية ـ خدمة كبيرة.
من هنا اعتقد «كلسن»، الذي يعتبر الوجه اللامع في هذا المذهب، اعتقد أن القانون يأمر كما يفعل المنطق وقواعد النحو أو الأخلاق، في حين أن علوم النحو الطبيعي تتولّى الشرح مفصل والتفسير.
ويقول: (في معرض تفريقه بين الأمر الأخلاقي الذي ينطوي على أمر صارم وبين القانون) أما الأمر القانوني فهو ـ على النقيض من ذلك ـ افتراضي ومربوط بإرادة الغير، انه افتراضي لأن الأمر خاضع لشرط معيّن، كأن تقول: امتنع عن الإقدام على عمل ما إذا أردت أن تحصل على نتيجة معينة، هو منوط بإرادة الغير من حيث أن الأمر يصدر عن غير الجهة التي يوجّه اليها342.
ومن هنا فان قانون التجمّع وقانون الجمعية وقانون الدولة سواء كانت قمعيّة أم ديمقراطية أم دينية. كل أولئك يقسم بذات الخاصية الأساسية للقانون. وهو بناء قواعد متكاملة للسلوك. (أو قل عملية افتراضات منسّقة).
ثالثاً: إن المذهب الصوري، قد أضاف تحليلات لطيفه على القانون، ولكنه ارتكب خطأ كبيراً عندما نظر إلى القانون فقط من هذه الزاوية، حيث أن شكل القانون هام ولكن محتواه ومضمونه لا يقلّ أهمية من شكله، كما عرفنا ذلك سابقاً، ونعرفه إنشاء الله خلال استعراضنا لسائر المذاهب.
علماً بان نظريتي قائمة على ساس الانتفاع بكل نظرية. وتحويلها إلى جزء مكمل لسائر النظريات.



https://fbcdn-sphotos-d-a.akamaihd.net/hphotos-ak-ash4/482113_236967293114455_1193518507_n.png (http://www.dzbatna.com)
©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى (http://www.dzbatna.com)©

استعمل مربع البحث في الاسفل لمزيد من المواضيع


سريع للبحث عن مواضيع في المنتدى