المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العولمة و الهوية



linnou
11-08-2013, بتوقيت غرينيتش 06:27 AM
نحن والعولمة



مأزق مفهوم ومحنة هوية



محمد فاضل رضوان


عادة ما تقدم العولمة باعتبارها مصطلحاً قلقاً يرتبط ذكره بالتوجس والتحفظ بالنظر لتعدد حضوره في مختلف الخطابات السياسية والاقتصادية والثقافية المعاصرة، دون أن يكون هناك سياق جامع مانع يتحكم في سيرورة هذا المفهوم، فيسمح بوضعه في إطار تعريفي قارٍّ كغيره من المفاهيم، ففي حين يبدو للوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بمصطلح جديد يكاد تداوله الإعلامي يتجاوز البضع سنوات، فإن كل من هانز بيتر مارتين وهارولد شومان في كتاب كاملهما "فخ العولمة" يرسمان له جذوراً مادة التاريخية عميقة تعود إلى أكثر من خمسة قرون، منذ اكتشاف أمريكا وغزوها وكونية عصر الأنوار.1
قلق هذا المفهوم وتداخله مع مفاهيم أخرى من قبيل العالمية،2 هو ما يجعل بعض الدراسات الحديثة ترفض حتى الاعتراف به، إذ تعتبره مجرد خرافة وموضة عصر.3 إننا بحسب تعبير المفكر الفرنسي ريجيس دوبري (regis debri) أمام نظام لا يزال قيد التشكل بأدوات ومحددات نظرية غير موعى بها وعياً تاماً، كما وقع بالنسبة لانتقال العالم من العصور الوسطى إلى عصر التنوير، أو من الموجة الفلاحية إلى الموجة الصناعية، أو من الموجة الصناعية إلى الموجة المعلوماتية، وهي ذروة الحداثة.4 ولعل هذا ما جعل روبرتسون (robertson)، أحد أبرز منظري العولمة في العالم، في تحقيبه الشهير لمادة التاريخها يطلق على المرحلة الخامسة التي تتمثل الصورة المعاصرة التي نحن بصدد عيشها مرحلة عدم اليقين،5 التي تحيل بالضرورة على قلق المفهوم واستعصاء حصره اصطلاحياً أو وظيفياً، غير أن مسحاً سريعاً لمجموعة من التعاريف المقدمة من قبل مجموعة من المفكرين والأكاديميين قد تتيح لنا استخلاص بعض مؤشرات سيرورة المفهوم على الأقل:

يعرف سمير أمين العولمة بكونها الاختراق المتبادل في الاقتصاديات الرأسمالية المتطورة بدرجة أولى، ثم توسيع المبادلات بين الشمال والجنوب على اعتبار أنه يمثل سوقاً مهمة،6 فيما يذهب هوبرت فيدرين (Hubert vedrine) إلى أن العولمة ليست فكراً ولكنها وقائع تقنية فرض رائعت نفسها على الساحة الكونية، وفي فرض رائعها لنفسها أقلقت الجميع، وبخاصة الدول ومؤسسات القطاع الخاص، إنها ظاهرة لا تمس أي اقتصاد، وإنما بالحصر اقتصاد السوق والاستهلاك، واقتصاد تحويلات العملات والتدبير الاستثماري.7 أما صادق جلال العظم فيعرفها بكونها وصول نمط الإنتاج الرأسمالي، عند منتصف القرن تقريباً إلى نقطة الانتقال من عالمية التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول، إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة الإنتاج ذاتها.8 بينما يرى عزمي بشارة أنها طغيان قوانين التبادل العالمي المفروض رسميةة من قبل المراكز الصناعية الكبرى على قوانين وحاجات الاقتصاد المحلي.9

هذه التعاريف وإن كانت تتقاطع فيما بينها من حيث تركيزها على الجانب الاقتصادي والتقني الذي يبلغ أوجه في المد المعلوماتي، فهي لا توازي أهمية المفهوم وحضوره المتشعب في مختلف الخطابات المعاصرة؛ لأننا بهذا المعنى بصدد اعتبار العولمة مجرد ممارسات جديدة في التجارة والاقتصاد المتبادل تستند إلى قوة التدفقات المالية في سوق عالمية واحدة، واتساع رقعة المبادلات التكنولوجية، وبخاصة عبر وسائل الاتصال والإعلام،10 ما يجعل مقاربتنا للعولمة قاصرة عن الإحاطة بشموليتها واختزالاً لها في بعض مكوناتها، و إهمالا غير مبرر لتجلياتها المختلفة والمتعددة الأشكال والألوان، الشيء الذي يتطلب ضرورة الوقوف بدقة وشمولية، إن لم يكن على دلالة المفهوم وهو أمر لا زال مستعصياً كما أسلفنا، فعلى تجلياتها على مختلف مظاهر الحياة الإنسانية، وفي مقدمتها المعطى الثقافي والتربوي الذي يدخل بشكل مباشر في تشكيل الهوية والخصوصية المحلية التي تشير أغلب الدراسات إلى أنها قد تكون الضحية الأولى لموجة العولمة، باعتبارها سيراً نحو التنميط من خلال تمرير نموذج مقترح ثقافي واحد يكتسح الثقافات الجهوية، ويضع مصيرها في خانة الموضوعات التي قد تشغل اهتمام الأنثروبولوجيين بعد زمن قليل.

من هذا المنطلق نتوجه لمقاربة مفهوم العولمة من زاوية تأثيره المباشر أو غير المباشر على الخصوصيات الثقافية الجهوية، التي قد تسمح لنا باعتماد مصطلحات من قبيل الهوية، وفي مقدمتها المجال الثقافي العربي الذي يقع في دائرة نفوذ الاكتساح الثقافي الغربي، من خلال محاولة قراءة بعض الاجتهادات الفكرية والأكاديمية مادة اللغة العربية التي اهتمت بتوصيف الظاهرة وأثرها وآليات مواجهتها التي من البديهي أن تقودنا إلى طرق باب الممارسة التربوية في تجلياتها المادية والرمزية الجماعية والفردية، لأن من شأنها أن تشكل من وجهة نظرنا ملتقى آليات تحصين الهوية الثقافية مادة اللغة العربية في وجه الاكتساح الثقافي العولمي الغربي.

العولمة نقيض الهوية

ليس الحديث عن الهوية بأقل قلقاً ولا إشكالية من حديثنا السابق عن العولمة، فهي من المفاهيم التي تضخمت بشأنها المقاربات والدراسات إلى درجة جعلت المفكر ألفرد جروسر (Alfred grosser) يعلق بأن القليل من المفاهيم هي التي حظيت بالتضخيم الذي عرفه مفهوم الهوية،11 وهو أمر يعود إلى تناثر هذا المفهوم على ضفاف تخصصات عدة داخل حقل العلوم الإنسانية من الأنثروبولوجيا إلى السوسيولوجيا، ومن السيكولوجيا إلى علوم السياسة، الشيء الذي يجعل من كل محاولة لحصره ضرباً من المجازفة الفكرية المفتوحة على الاحتمالات كافة، هكذا يحدد معجم روبير الفرنسي الهوية باعتبارها الميزة الثابتة في الذات، ويختزن هذا التحديد معنيين يعمل على توضيحهما معجم المفاهيم الفلسفية على الشكل التالي: إنها ميزة ما هو متماثل، سواء تعلق الأمر بعلاقة الاستمرارية التي يقيمها فرد ما مع ذاته أم من جهة العلاقات التي يقيمها مع الوقائع على اختلاف أشكالها، ومن ثم تصبح الهوية الثقافية هي الفعل الذي يجعل من واقع ما مساوياً أو شبيها بواقع آخر من خلال الاشتراك في الجوهر، أما أنثروبولوجياً فيحضر المفهوم كعلامة غير منفصلة عن مسلسل الفردنة، أي كشكل من أشكال التمايز بين الطبقات نفسها، فمن أجل إعطاء هوية لفرد ما أو لمجموعة من الأفراد، يبدو لزاماً التمييز بين ما ليسوا هم، وبالمقابل ينبغي فهم الفرد في خصوصيته، كما يجب أخذ هويته المادة التاريخية بعين الاعتبار.12

الواقع أننا بصدد التعامل مع إحدى أكثر القضايا حساسية في نشأة المجتمعات واستمرارها، ولعل هذا ما يضع هذه القضية في عمق كثير من النزاعات المسلحة أو حتى السلمية في العالم في إفريقيا كما في آسيا وأوروبا، بل إن هذه الاندفاعات نحو الهوية ليست حكراً في الواقع على الأماكن التي تقدم في التداول الإعلامي باعتبارها مناطق صراع وتعصب، بقدر ما هي منتشرة في مختلف بقاع المعمور شرقها وغربها، وفي هذا الإطار لسنا بحاجة للتذكير بالمفاوضات الشاقة التي جمعت فرنسا بالولايات المتحدة الأميركية على هامش معاهدة "الجات" التي تقضي بحرية مرور البضائع والأشخاص والمعلومات بين الدول بحرية، فقد كان زعماء فرنسا ومثقفوها متخوفون من مدى قدرة الهوية المادة الفرنسية على الصمود في وجه الاختراق الثقافي والإعلامي الأجنبي، على الرغم من الخلفية الثقافية المادة الفرنسية العريقة التي تجر وراءها فكر الأنوار وأبجديات الحداثة الغربية من إرهاصات الفكر الديكارتي إلى اشتغالات فلاسفة الاختلاف، كما أن كانتونات سويسرا وقوميتي بلجيكا وطائفتي أيرلندا ليست كلها أكثر من تعبير عن التشبث بالهوية في زمن العولمة، أما ألمانيا فإن أزيد من أربعين سنة من الفرقة الإسمنتية لم تلغِ سعي الطرفين نحو هوية الأمة الألمانية في مشهد التوحيد، ولعله من قبيل المفارقة الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية، متزعمة أيديولوجيا العولمة في العالم، تعد من أكثر البلدان استشعاراً لهاجس الهوية، فقد سجل المفكر المغربي محمد عابد الجابري في زيارة له إليها في إطار ما يسمى بالحوار العربي الأمريكي أن برنامج الرحلة لم يكن يعطي الأولوية لإطلاع الزوار، وهم نخبة من ألمع المفكرين العرب، على تجليات الحضارة الأمريكية المعاصرة من قبيل علم التكنولوجيا والمعلوميات وبرامج غزو الفضاء، بقدر ما انصرف إلى أشياء وأماكن لها ارتباط بالتراث والمادة التاريخ إلى درجة جعلت الدكتور الجابري يخاطب مضيفيه في إحدى مداخلاته على هامش الحوار المذكور قائلا: "إن وضعنا معكم مقلوب، نحن في العالم العربي شبعنا من التراث ونبحث عن المعاصرة، أما أنتم فيبدو أنكم شبعتم من المعاصرة وتبحثون عن التراث. أنتم تبحثون عن الماضي ونحن نبحث عن المستقبل".13 من جهة أخرى، فقد يتداخل هذا المفهوم مع مفاهيم أخرى هكذا قد يتم التعبير عن الهوية في كثير من الأحيان بلغة الجنسية، وليست الجنسية وضعية سياسية قانونية فحسب، فهي كذلك كل ما نعتقد أنها خصائصنا الاجتماعية المميزة، السمات التي نتقاسمها مع المواطنين المماثلين،14 الشيء الذي يحيل على تزاوج غير واضح المعالم بين الروابط المحسوسة والخريطة السياسية والقانونية، بل والجغرافية للعالم، ما يضعنا أمام أحد أهم الأسئلة التي تطرح نفسها بإلحاح على هامش علاقة العولمة بالهوية تتعلق بسؤال المكان، فهذا الأخير الذي ظل على امتداد عمر التركيبة السياسية التقليدية، ممثلة في الدول الوطنية، مكاناً مغلقاً على مجموعة من الفاعلين الحاضرين في علاقات تقوم وجهاً لوجه قد أصبح مجالاً كونياً مفتوحاً لتفاعلات أبعد من نطاقه المحدد، يدخل فيها أفراد غير موجودين بالمكان، وأحداث لا تحدث في المكان ذاته.15 بهذا المعنى يكون التعايش بين العولمة والحدود السياسية أمراً محدوداً للغاية، ما دامت هذه الأخيرة تركز على الخصوصية، بينما تسعى العولمة إلى تجاوز هذه الخصوصية والانتقال إلى العمومية. الحدود مظهر من مظاهر السيادة، ومن أهم مقوماتها ومرتكزاتها، إنها تجسيد للسيادة على المكان، سواء أكان ملكاً خاصاً أم ملكاً جماعياً، أم أقيمت عليه دولة مستقلة تتمسك بحق سيادتها الكاملة ضمن حدوده المعترف بها دولياً، أما العولمة، فإنها تسعى إلى إلغاء السيادة على المكان أو إضعافها مستعينة بوسائلها وآلياتها من تخطي الحدود والقفز من فوقها والتعدي على خصوصيات المكان وسكانه، واختراقه، وغزو ثقافة شعبه وحضارته، وفرض رائع ثقافة أخرى عليه، ما قد يضعف من انتمائه الوطني والقومي ويساهم في تفكيك عناصر هويته ومكوناتها، ليصبح شعباً بلا هوية تميزه عن غيره من الأمم و الشعوب.16 إنه إذن أقرب إلى نظام يعمل على إفراغ الهوية الجماعية من كل محتوى، ويدفع للتفتيت والتشتيت ليربط الناس بعالم اللاوطن واللاأمة، واللادولة، أو يفرقهم في أتون الحرب الأهلية.17

اندثار الحدود السياسية والقانونية والثقافية أمام العولمة المدعومة بوسائل حديثة كالإنترنت، والفضائيات التلفزيونية، من شانه أن يدمر آخر قلاع المقاومة للاكتساح الثقافي الغربي والأمريكي بالأساس، ما دام السياق الجيوبوليتيكي الدولي يسير باتجاه تعزيز هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم في سياق ما يعرف بالنظام الدولي الجديد، أو عالم الميغا إمبريالية بتعبير عالم الدراسات المستقبلية المهدي المنجرة،18 فمع انحسار الاتحاد السوفييتي وتفككه وانشغاله بهمومه الداخلية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحقق أكبر قدر من الانتشار العالمي والنجاحات والانتصارات السياسية والعسكرية، وتستغل التحولات الدولية لتزيد من حضورها وصعودها الدولي كدولة وحيدة تتميز بمواصفات ومقومات الدولة العظمى كلها (super state) ،19 إضافة إلى أنها تتحكم بالنسبة الأكبر من وسائل الإعلام المؤثرة عبر العالم. ولعل أكبر مظاهر السيطرة الأمريكية معلوماتياً تشبثها بأن تحتكر مؤسسة (ICANN) الأمريكية مسؤولية تسيير المهام الأساسية للإنترنت (internet governance)، التي تشمل إدارة الموارد الرئيسية للبنية التحتية للشبكة ... فقد رفضت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل قاطع في القمة العالمية لمجتمع المعلومات، أن تحال هذه المهمة على منظمة عالمية كالاتحاد العالمي للاتصالات ... وهو ما يثير قلق الاتحاد الأوروبي من أن تصبح الإنترنت "ضيعة" أمريكية خاصة،20 بهذا تتجاوز الهيمنة الأمريكية الجانب الاقتصادي والسياسي إلى الجانب الثقافي، بما يعنيه ذلك من تعميم للقيم النفسية والسلوكية والعقائدية الأمريكية على الأذواق والسلوكيات والأعراف التي تشكل، بالإضافة إلى الأديان والعقائد، المنظومة المتكاملة للخصوصية الحضارية لباقي الشعوب في العالم، ما يعني أن الأمر يتعلق بأيديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم وأمركته على حد تعبير الدكتور عابد الجابري، فهي تعمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه هو الولايات المتحدة الأمريكية، بالذات، على بلدان العالم أجمع ... .21 لذلك، فهي تنحو باتجاه القضاء على الخصوصية الثقافية بشكل عام، في الأذواق وأولويات التفكير ومواضيع مقترحة و رسميةه ومناهجه، لكل هذا يضع المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي مفهوم العولمة في عمق التطلعات الهيمنية للولايات المتحدة الأمريكية من وحي مصالحها الأمنية القومية، أو ما يتعارف عليه بالحلم الأمريكي الذي جند، ليصبح واقعاً معيشاً، مجموعة من الحلفاء والزبناء في إطار تبني حرية مطلقة لقوانين السوق المالية الواحدة التي تتحدى سلطة الدولة القومية ودولة الرعاية.22 أما المدخل الأساسي للتأثير فيرتبط -كما سبقت الإشارة لذلك- بالاختراق الإعلامي الهائل الذي يتجاوز كل الأشكال التقليدية للتواصل، فيجند ثقافة جديدة هي ثقافة ما بعد المكتوب التي ليست سوى ثقافة الصورة، باعتبارها المفتاح السحري للنظام الثقافي الجديد: نظام إنتاج وعي الإنسان بالعالم، إنها المادة الثقافية الأساس التي يجري تسويقها على أوسع نطاق جماهيري، وهي تلعب الدور نفسه الذي لعبته الكلمة في سائر التواريخ التي سلفت. إن الصورة أكثر إغراء وجذباً وأشد تعبيراً وأكثر رسوخاً والتصاقاً بالعقل؛ لأنها لغة عالمية تفهمها جميع الأمم والشعوب والبشر كافة، سواء أكانوا جهلة أم متعلمين، لأنها قادرة على تحطيم الحاجز اللغوي وعلى الرغم من هذا فهي لا تعدو أن تكون ثقافة معلبات مسلوقة جاهزة للاستهلاك، تتنافس الشركات الإعلامية لتسويقها مستخدمة جميع ما ابتكره العقل البشري الغربي من وسائل الإغراء والخداع، ومع تراجع معدلات القراءة والاهتمام بالكتاب كامل، فإن نظام القيم معرض للتفتت، ما سيكرس منظومة جديدة من المعايير ترفع من قيمه النفعية والفردانية الأنانية، والمنزع المادي ـ الغرائزي المجرد من أي محتوى إنساني... الخ.23 ولا تقتصر محاولات الأمركة على مضامين الرسائل الإعلامية الدائمة التدفق، بل تتعداها إلى التبشير بانتصار القيم المسماة أمريكية، وبأساليب وطرز الحياة الأمريكية، بدءاً بأنماط السلوك والملابس واللغة، وصولاً إلى التبشير بالانتصار النهائي للقيم الليبرالية على سواها، والحديث عن نهاية المادة التاريخ،24 بوصفها النتيجة النهائية التي أعقبت الحرب الباردة بما تحتويه من تفوق لقدرات التكنولوجيا الأمريكية، ومن أفضلية للنظم والمؤسسات العالمية على الطراز الأمريكي، وبما تنطوي عليه من تحديث وديمقراطية لا بد وأن تعم، حسب منظري الليبرالية الجديدة، جميع دول العالم من خلال التمسك بمبادئ الرأسمالية التي تشكل غاية التطور العالمي وقدر جميع الشعوب والدول الأخرى.25 ولعل أبلغ مثال على هذا الاختراق الأمريكي لأنماط العيش الجهوية بمختلف أنحاء العالم، يتمثل في تداول مفاهيم جديدة من قبيل مفهوم الماكدونالية (macdonaldization) الذي يحيل بشكل مباشر على ثقافة وجبات الطعام السريع الأمريكي المقدم في سلسلة مطاعم ماكدونالد الشهيرة عبر العالم.26 ولسنا بحاجة للتذكير على أن انتشار هذه المطاعم في كل ربوع الوطن العربي لخير دليل على اكتساح النموذج مقترح الثقافي الأمريكي لمختلف مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية مادة اللغة العربية، الشيء الذي يحيل بشكل مباشر على أننا في عمق تأثير العولمة المؤمركة، فما مدى هذا التأثير؟ وما هي تداعياته على الفضاء الثقافي العربي؟ وهل من آليات للمقاومة؟

الثقافة مادة اللغة العربية: الاكتساح العولمي وآليات المقاومة

إذا ركزنا زاوية الرؤية على البلدان مادة اللغة العربية، فإننا لا نعتبر وضعها مفارقاً لمجمل البلدان المنتمية تحت لواء العالم الثالث، فالتبعية السياسية الشاملة للغرب، وضعف أداء الاقتصادات مادة اللغة العربية، وفشل مشاريع التنمية، والاندماج السلبي في اقتصاديات الغرب القوية، لا يمنح فرصاً لتشكيل هوية اقتصادية محلية قد تفسح المجال أمام حماية وتحصين الهوية الثقافية في شتى تمظهراتها، ذلك أن ما نستورده من الغرب ليس مجرد منتوجات أو آلات، بل سلوك وقيم و معايير،27 لها بالغ الأثر في مجتمعات لا زالت تعيش إشكالية الصراع بين التقليد الذي يتحدد من خلال الانتماء إلى نظام اجتماعي وثقافي يجد تبريره في الماضي، ويدافع عن مكتسباته ضد عمل قوى التغير28 والحداثة التي تقدم نماذج للسلوك والتفكير متعارضة مع النماذج التقليدية.29 وإذا جاز لنا أن نجازف بمحاولة رصد تأثير العولمة الغربية في نسختها الأمريكية بالأساس على واقع الثقافة مادة اللغة العربية، فقد يكون بإمكاننا تسجيل بعض هذه المؤثرات التي وإن كانت تعلن عن نفسها بتجلٍّ واضح في حيثيات الحياة اليومية مادة اللغة العربية، فإن من الصعب عزلها عن التأثيرات الأخرى السياسية والاقتصادية بالأساس، هكذا يمكن الحديث عما يلي:

< تغيير شامل في القيم والسلوكـيات الاستهلاكية من خلال التركيز على العلامات التجارية العالمية، وانتشار السلوكيات الاستهلاكية الغربية، الشيء الذي من شأنه أن يهدد الموروث الثقافي والاجتماعي العربي في جملته بالاندثار، مع توالي انخراط الأجيال اللاحقة في هذه الأنماط المستوردة التي تمس مختلف أشكال الحياة المادية والفكرية للأفراد والجماعات من المأكل، والمشرب، والملبس إلى طرق التفكير والحياة.
< تراجع مستمر للغة مادة اللغة العربية في شتى المجالات أمام اكتساح اللغات الأجنبية، إذ أصبحت اللغات الأجنبية &quot;الإنجليزية في دول الشرق الأوسط والمادة الفرنسية في دول المغرب العربي&quot; أكثر تداولاً من اللغة مادة اللغة العربية حتى في العلاقات البين عربية، بل وداخل الدولة نفسها.
< فقدان الثقافة مادة اللغة العربية للقدرة على التجديد المتوازن لذاتها، فتخلف الآليات والمعايير المنتهجة في هذا السياق أضحى يهدد حتى مستقبل الإنتاج الفني والأدبي بالبلدان مادة اللغة العربية، ولسنا بحاجة للتذكير بتراجع هذا الإنتاج كماً وكيفاً.
< انكماش وسائل الإعلام مادة اللغة العربية أمام الاكتساح الهائل للإعلام الغربي وقصورها عن حماية وتجديد الثقافة مادة اللغة العربية.

هذه بعض آثار الاختراق الثقافي الغربي الأمريكي للثقافة مادة اللغة العربية، وهي على الرغم من خطورتها لا تمثل في الواقع سوى الشجرة التي تحجب الغابة أما آليات المقاومة وتحصين الهوية مادة اللغة العربية، فليست مناقشتها بأقل صعوبة من عزل هذه الآثار وتوصيفها، هكذا من البديهي أن تتجاوز الحلول المقترحة من قبل المهتمين بتتبع الظاهرة وآثارها، الجانب الثقافي، لتحاول صياغة منظومة متعددة الأوجه من آليات العمل السياسي الرسمي (الحكامة) والسلوكيات الفردية والجماعية الرسمية وغير الرسمية الكفيلة، إن لم يكن بدحض آثار العولمة، فعلى الأقل تنشيط آليات المقاومة داخل المجتمعات المستهدفة التي تأتي المجتمعات مادة اللغة العربية في طليعتها لانتمائها للحلقة السياسية الأضعف في العالم من جهة، ووقوعها في مناطق مصالح الأقوياء من جهة أخرى. في هذا السياق نتوقف عند إحدى أهم لحظات النقاش مادة اللغة العربية حول إشكالية العولمة وآثارها الثقافية وآليات مواجهتها، ويتعلق الأمر بالندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة مادة اللغة العربية في بيروت حول موضوع: (العرب والعولمة) بين 18 و20 كانون الأول 1997، والتي تميزت بمشاركة نخبة من المفكرين العرب حملت أوراقهم المقدمة على هامش الندوة رؤى عميقة اتجاه العولمة الثقافية، كما قدمت مقترحات نظرية وعلمية للحد من تداعياتها السلبية.30 فإجابة على سؤال ما العمل إزاء الأخطار التي تطبع علاقة العرب بالعولمة على مستوى الهوية الثقافية، يعرض المفكر محمد عابد الجابري لموقفين يصنفهما منذ البداية ضمن المواقف اللامادة التاريخية؛ يتعلق الأول بالرفض المطلق وسلاحه الانغلاق الكلي الذي ينقلب إلى موت بطيء لعدم وجود نسبة معقولة من التكافؤ بين إمكانات العولمة والثقافة المنغلقة عليها، فيما يرتبط الثاني بالقبول التام للاستتباع الحضاري والاختراق الثقافي الذي تمارسه العولمة تحت شعار الانفتاح على العصر والمراهنة على الحداثة، بما يعنيه هذا من دعوة للاغتراب واللاهوية. أما البديل حسب الدكتور الجابري فينطلق من العمل داخل الثقافة مادة اللغة العربية نفسها من أجل تجديدها (بإعادة بنائها وممارسة الحداثة في معطياتها ومادة التاريخها، والتماس وجوه من الفهم والتأويل لمسارها تسمح بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل ... فتجديد الثقافة مادة اللغة العربية، والدفاع عن الخصوصيات، ومقاومة الغزو والاختراق، كلها أمور تحتاج إلى اكتساب الأسس والأدوات التي لا بد منها لدخول عصر العلم والثقافة، وفي مقدمتها العقلانية والديمقراطية ... في الاتجاه نفسه سارت ورقة الباحث السعودي محمد محفوظ مدير تحرير مجلة الكلمة الذي حث على ضرورة إعادة الاعتبار لعناصر الثقافة الوطنية، والعمل على تنشيطها في النسيج المجتمعي، لأن بقاء عناصر الثقافة الوطنية ساكنة، يعني تحول بعضها إلى فلكلور محلي، نشجع به السياحة، ونحنطه في متاحف وأماكن أثرية لا غير، ذلك أن الارتكاز على عناصر الثقافة الوطنية ومقوماتها هو الذي يوفر لنا أسباب الوعي والإدراك الكافيين لاستيعاب تطورات العالم، وتحديد مستقبلنا. أما الدكتور عبد الإله بلقزيز فلا يرى في إطار الورقة التي قدمها على هامش الندوة نفسها من حل سوى ما أسماه الممانعة الثقافية، عبر المقاومة الإيجابية لهذه العولمة أو السيطرة الثقافية الغربية، كما أسماها وهو ما لن يتحقق إلا باستعمال الأدوات عينها التي تحققت بها الجراحة الثقافية للعولمة، ذلك أن نظريات علم الاجتماع الثقافي تؤكد أن فعل العدوان الثقافي غالباً ما يستنهض نقيضه.31

إن قراءة متأنية في الآليات المقترحة من لدن نخبة من المفكرين والأكاديميين العرب الذين شكلت إشكالية الهوية مادة اللغة العربية في مقابل الاكتساح العولمي إحدى أهم ركائز اشتغالاتهم الفكرية، تدفعنا للإقرار بأن المعركة داخلية أكثر بكثير مما هي خارجية، فالتصدي لآثار العولمة لا يمر عبر المواجهة المكشوفة معها في مختلف ساحاتها الاقتصادية والسياسية و الاجتماعية، لأن هذا سيكون بمثابة ضرب من الانتحار الهوياتي على الواجهات كافة، بقدر ما يمر عبر الاشتغال على الذات. إنها إشكالية الأنا والنحن أكثر بكثير من كونها إشكالية الآخر؛ بمعنى أن مستقبل الثقافة مادة اللغة العربية ليس مرهوناً بالتحديات الخارجية التي تحملها العولمة على أهميتها فحسب، بل يتصل بقدرة هذه الثقافة على إقامة حوار داخلي بين اتجاهاتها وتياراتها وأفكارها، أي بقدرتنا كعرب على إعادة بناء وحدة الفضاء الثقافي العربي بما يضمن حرية تداول الأفكار والمنتجات الفنية والأدبية، إلى جانب تدعيم النشاط الإبداعي وتحريره من الممنوعات والمحرمات، بحيث يصبح الحوار الثقافي والحضاري العربي مقدمة وشرطاً لأي ممانعة ثقافية أو مبادرة منتجة للتواصل مع الثقافات الأخرى.32

من جهة أخرى، فإن الحديث عن تشكيل وتحصين الهوية الثقافية الداخلية في مقابل الاختراق الثقافي الغربي، يحيل بالضرورة على سيرورة بالغة التعقيد، ترتبط بمختلف المؤسسات الاجتماعية التي توكل إليها مهمة إنتاج القيم والرموز وضمان استمرارها، والتي تأتي المؤسسات الإدماجية التقليدية من قبيل المدرسة والأسرة على رأس قائمتها، الشيء الذي يحيل بقوة الأشياء على التطرق لموضوعة التربية كفاعلية دينامية من شأنها توفير مجال جد ملائم للمقاومة أو الممانعة بتعبير عبد الإله بلقزيز،33 فإلى أي حد يمكن اعتبار المؤسسات التربوية التقليدية جبهة ممانعة ثقافية لتحصين الذات مادة اللغة العربية ضد آليات العولمة والتنميط الثقافي؟

التربية: ساحة ممانعة

تجعل التصورات الكلاسيكية من الممارسة التربوية في مختلف تجلياتها صمام أمان الضبط والمحافظة الاجتماعية، باعتبارها موجهة نحو إنتاج وإعادة إنتاج القيم والرموز عن طريق نقلها بشكل أمين للأجيال المتعاقبة، فعالم الاجتماع الفرنسي ديركايم (DURKHAIM) يقدم التربية باعتبارها العمل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال التي لم تنضج بعد، من أجل الحياة الاجتماعية. وهدفها أن تثير لدى المتلقي وتنمي عنده طائفة من الأحوال الجسدية والفكرية والخلقية التي يتطلبها منه المجتمع السياسي في جملته، وتتطلبها البيئة الخاصة التي يعد لها بوجه خاص، ولعل هذا أبلغ تجلٍّ لهذه السيرورة في اصطلاحات العلوم الإنسانية والاجتماعية هو ما يمكن اختزاله في مفهوم التنشئة الاجتماعية (socialisation) التي يقدمها السوسيولوجي الكندي غاي روتشر (Guy Rocher) باعتبارها منظومة الأوليات التي تمكن الفرد على مدى حياته من تعلم واستبطان القيم الاجتماعية الثقافية السائدة في وسطه الاجتماعي.34 بهذا المعنى يمكن تصورها كمنظومة عمليات يعتمدها المجتمع في نقل ثقافته، بما تنطوي عليه هذه الثقافة من مفاهيم وقيم وعادات وتقاليد إلى أفراده ... إنها العملية التي يتم من خلالها دمج الفرد في المجتمع والمجتمع في الفرد.35

وفقاً لمختلف هذه التحديدات تتباين التربية من مجتمع لآخر بتباين النماذج الثقافية والرموز والقيم التي يستهدف كل مجتمع ضمان استمرارها من خلال السهر على تمريرها للأجيال اللاحقة، إلا أنها لا تعدو أن تكون انعكاساً لأساليب السلطة الموظفة في المجتمع وفي مؤسساته، لهذا السبب يتم الرهان في أجرأة غايات وأهداف العملية التربوية على المؤسسات التربوية التقليدية الممتدة من المدرسة إلى الأسرة باعتبارهما مؤسستين اجتماعيتين إدماجيتين تتمحور أهميتهما في المحافظة على الموروث الثقافي والاجتماعي وإعادة إنتاجه بما يضمن عملية الإدماج هاته على المستويين سابقي الذكر: إدماج الفرد في المجتمع وإدماج ثقافة المجتمع في الفرد، غير أن حالة الانفلات الهائل للثورة المعلوماتية وتأثيراتها الجمة على الأفراد والجماعات، بل وعلى الدول نفسها من شأنه أن يطرح أكثر من سؤال حول الهوامش المتاحة لهذه المؤسسات التقليدية في القيام بعملية الإنتاج وإعادة الإنتاج هذه، وبخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة خطاب هذه المؤسسات الأقرب ميلاً إلى المحافظة والأكثر ارتباطاً بالقهر والإكراه، في مقابل الخطاب السمعي البصري الذي يراهن على آخر تقنيات التأثير، وبخاصة أن المشروع الغربي في عصر العولمة قد أصبح في عهدة الإمبراطوريات السمعية البصرية، بما تملكه من نفوذ وإمكانات وسلطة تمكنها من تقديم مادتها الإعلامية للمتلقي في قالب مشوق يجلب الانتباه عبر تكنولوجيا الإثارة والتشويق، ويقارب عتبة المتعة ومعها يبلغ خطابه الأيديولوجي وأهدافه الاستهلاكية، ويسهم في وأد حاسة النقد لدى المتلقي الذي يصبح قابلاً لتمرير وتلقي جميع القيم والمواقف السلوكية دون اعتراض عقلي أو معاداة نفسية.36 الشيء الذي يجعل المعركة محسومة سلفاً لصالح الخطاب الإعلامي القادم من ما وراء البحار، محملاً بأبطال ورموز جديدة تعيد تشكيل مخيلة المشاهد بدءاً بعارضات الأزياء ونجوم الكرة، وصولاً إلى رموز الفن والسينما والأعمال والألبسة والأطعمة وأنماط السلوك والمفردات اللغوية،37 فيقلل من قدرة المؤسسات التربوية مادة اللغة العربية في صورتها الحالية على المنافسة ومقاومة هذه الصور المبثوثة عبر القنوات الفضائية التي أضحت في متناول الجميع بأقل التكاليف في نسختها الأصلية المرتبطة بالإعلام الغربي، أو حتى في امتداداتها الوطنية التي تعيد إنتاج الخطاب نفسه بالآليات نفسها بانتصارها للمنتوج الغربي على حساب المنتوج الوطني إن وجد أصلاً.

الواقع أن هذه المؤسسات لا تستطيع تحقيق اكتفاء ذاتي ثقافي عربي كما لم تستطع الاقتصادات المترهلة ضمان اكتفاء ذاتي غذائي عربي مع خطورة زائدة متضمنة في المقارنة تتمثل في أن اكتساح الإعلام الغربي للمجال الثقافي العربي من شأنه أن يحول هذا الفضاء الداخلي إلى فضاء للإقصاء، فهيمنة أدوات الاتصال السمعي البصري الغربية واكتساحها لكل الفضاءات الممكنة واستئثارها بحيز زمني مهم من وقت المتلقين الذي يبلغ ذروته في النمط التلفزيوني، يجعل الجميع أقرب إلى العيش في عالم افتراضي أثيري يتألف من الصور والإشارات والنصوص المرئية والمقروءة على الشاشات الإلكترونية، بما بات يشكل تهديداً لمنظومات القيم والرموز وتغييراً في المرجعيات الوجودية وأنماط الحياة،38 إذ أن العالم المرغوب فيه بالنسبة لزبناء الفضاء السمعي البصري التلفزيوني خاصة لم يعد، بالضرورة، هو العالم الحقيقي الذي يتحرك في إطاره هؤلاء بقدر ما هو هذا العالم الأثيري الافتراضي الذي تنقله وسائل الإعلام الغربية وامتداداتها المحلية أيضاً، فتسهم به في تغيير البنى الذهنية والتشويش، إن لم نقل التضييق، على الأجهزة التقليدية الوصية على الممارسة التربوية، وهذا من شأنه أن يحول المجتمع الحقيقي إلى مجتمع للاغتراب والإقصاء، فالرموز والقيم التي يتشبع بها المتلقي يومياً عبر الفضاء السمعي البصري مختلفة كلياً عن رموز وقيم المجتمع الأصلي ما دامت تصنع خارج حدوده، كما من شأنه أن يفقد المنتوج التربوي المحلي كل قدرة على جلب اهتمام متلقيه ما دام خطاب الأوامر والنواهي الذي يشكل عصبه غير ذي إغراء أمام ثقافة الصورة المشوقة والممتعة.

إن هذه الصورة القاتمة وإن كانت تشكل توصيفاً لحقيقة وضع المؤسسات التربوية والثقافية في دول العالم الثالث، ومن ضمنها الدول مادة اللغة العربية لا تعفي هذه المؤسسات من التمسك بأداء الوظائف المنوطة بها، والمتمثلة -كما أسلفنا- في صناعة الرموز والقيم التي تشكل عمق الهوية المحلية، والعمل على ضمان استمرارها، لأن مستقبل الثقافة مادة اللغة العربية رهين بإعادة النظر في آليات اشتغال المدرسة والأسرة، فإذا كان من البديهي أن تسعى الولايات المتحدة الأمريكية جاهدة إلى عولمة التربية تحت شعار حماية حقوق الإنسان، ناظرة إلى نموذج مقترحها كشرط أساسي لنجاح عولمتها الاقتصادية، مؤمنة بأنه عن طريق التربية التي ترغب في فرض رائعها يمكن تنمية النزعات الاستهلاكية،39 فإنه من الضروري والملح أن تسعى هذه المؤسسات إلى حماية الأمن الثقافي العربي من خلال إعلان القطيعة مع الآليات التقليدية الموظفة في المجال التربوي العربي عبر صياغة باراديغم تربوي جديد40 واعٍ بطبيعة المرحلة التي يجتازها العالم والمنطقة، وبطبيعة المسؤولية الجسيمة المنتظرة منه، وهو ما لن يتأتى إلا من خلال تجديد آليات اشتغال هذه المؤسسات عبر تطوير الأنساق التربوية التقليدية، وإنتاج خطاب تربوي وأسري بديل، أساسه الاشتغال على ميكانيزمات جديدة تهدف إلى تنمية الحس النقدي لدى المتلقي، بما يضمن تجاوباً عقلانياً مع المنتوج الإعلامي الغربي الذي أصبحت إمكانية تفاديه ضرباً من الخيال، وهو ما يسمح بالحديث عن منظومة تربوية تضمن توازناً معقولاً بين ضرورة الحفاظ على معالم الهوية المحلية وحتمية الانفتاح على الثقافات الإنسانية في مختلف تمظهراتها وامتداداتها، فتجعل الماضي في خدمة المستقبل وليس المستقبل رهينة للماضي.41 غير أن معركة المؤسسات التربوية التقليدية لن تحقق أهدافها بأية حال في غياب دعم حقيقي من الفضاء الإعلامي العربي، الذي يجب أن يخرج بدوره من موقف اللعب على ثنائية الاندماج اللامشروط في النموذج مقترح الثقافي الغربي تحت يافطة الحداثة والانفتاح، أو إعادة إنتاج نفس آليات المؤسسات الإدماجية التقليدية ممثلاً في خطاب الأوامر والنواهي تحت يافطة الإنتاج الإعلامي الأسري الهادف، والاندماج في مشاريع جديدة أساسها التطلع إلى إشباع حاجات المواطن العربي الثقافية والجمالية من خلال بناء صورة سمعية بصرية خاصة بالذات مادة اللغة العربية،42 تحقق بنجاعة ثلاثية الإخبار والتثقيف والترفيه، بكثير من الجمالية وقليل من الخطابة، صورة سمعية بصرية تسير في تناغم مع ضرورة الحفاظ على الخصوصية المحلية من جهة، والانفتاح على تجليات الثقافة العالمية من جهة أخرى، بما يعنيه ذلك من انتصار للقيم العالمية التي ترتقي بالقيم المحلية إلى مستوى عالمي، دون أن تحرمها من حقها في الوجود، ومواجهة لثقافة العولمة كإرادة للهيمنة واكتساح للخصوصيات الجهوية، ولعلنا لا نجد ما ننهي به هذه المقالة أبلغ من هذه العبارة العميقة المنسوبة لأحد رموز التحرر في المادة التاريخ الإنساني المهاتما غاندي: “أرغب أن تهب رياح جميع الثقافات على نوافذ بيتي، لكني أرفض أن تقتلعني أي منها من جذورى!”.



محمد فاضل رضوان



كاتب صحافي وباحث سوسيولوجي،



وأستاذ الفكر الإسلامي والفلسفة – المغرب





https://fbcdn-sphotos-d-a.akamaihd.net/hphotos-ak-ash4/482113_236967293114455_1193518507_n.png (http://www.dzbatna.com)
©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى (http://www.dzbatna.com)©

استعمل مربع البحث في الاسفل لمزيد من المواضيع


سريع للبحث عن مواضيع في المنتدى