المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ما هي الفلسفة و لمادا ندرسها



walid
11-07-2013, بتوقيت غرينيتش 09:23 AM
ولـماذا ندرسها


«ما هيالفلسفة؟» سؤال وجيه ومباشر، يدخلنا رأسا في مجال الفلسفة إذ يجعلنانستعمل أداتا من أدواتها ألا وهي السؤال. وجوابا عليه يقول مارتنهايدجرHEIDEGGER(1889-1976) «عندما نسأل: ما الفلسفة؟… فالهدف هو أن ندخلفي الفلسفة، وأن نقيم فيها ونسلك وفق طريقتها، أن نتحرك داخل الفلسفة لاأن ندور من الخارج حولها، أي أن نتفلسف» إذن فالتساؤل عن ماهية الفلسفة هوفي حد ذاته فلسفة.
وفي هذا الصدد يمكن القول بأن تحديد ماهية الفلسفة تعترضه عدد من الصعوبات يمكن حصرها اختصارا في ثلاثة أساسية وهي:

1) أن الفلسفة أكثر المباحث عرضة لتحديدات وتعريفات وتمثلاث وأحكام قبليةعامية ساذجة، منها على سبيل التمثيل دون هم الاستنفاد قولهم بان الفلسفة: غموض، ضبابية، صعبة، إلحاد وخروج عن الدين وكلام فارغ لا معنى له… الخ. لذا يجب علينا أولا أن نطهر أذهاننا من هذه التمثلات العامية الساذجةالمجانية إن كنا نتوخى الوقوف على ماهية الفلسفة كما تمثلها الفيلسوفومريد الفلسفة.
2) أن الفلسفة لا تعرف بموضوعها ولا بنتائجها، ذلك لأنه كما قال القدماء «الفلسفة أم العلوم»، فهي إذن غير ذات موضوع واحد ووحيد كما هو الشأنبالنسبة لباقي العلوم، بل على العكس من ذلك تتخذ الفلسفة من كل شيء فيالكون مشخصا (ماديا) كان أو مجردا (معنويا) موضوعا لها، تستحضره في ذاتها،تفكر فيه وتنتقده، تستلهمه وتلهمه… كما أن نتائجها غير ذات نفع مادي مباشركما هو حال نتائج مختلف العلوم، ذلك لأن الفلسفة لا تتوخى المعرفة حبا فيالمنفعة بل حبا في المعرفة ذاتها. وفي هذا يقول فيتاغوراس Pythagore (حوالي 572-497 قبل الميلاد) «الفلسفة هي محبة الحكمة لذاتها»، ويقول كارلياسبيرز Karl Jaspers(1883-1969) «كل من يمارس الفلسفة يريد أن يحيا منأجل الحقيقة» إذ أن «كرامة الإنسان هي إدراك الحقيقة» حقيقة الإنسانوالعالم والله…
3) أن تعاريف الفلسفة تتعدد بتعدد الفلاسفة أنفسهم ذلك لأن مادة التاريخ الفلسفةيفيدنا بأن الفلاسفة لم يتفقوا قط حول تعريف واحد للفلسفة جامع مانع لها. وهذا الاختلاف ذاته خاصية من خصائص التفكير الفلسفي، إذ أنه أساس خصوبتهاواستمرارية عطاءاتها المتمثلة في النظر إلى الإنسان والعالم والله منزوايا وجهات نظر متباينة يمكن مع تعددها وتنوعها الاقتراب أكثر فأكثر منحقيقة الأشياء وبالتالي تكوين رؤية للعالم( Une vision du monde) أكثرمماثلة له ومشابهة لحقيقته.
واختلاف الفلاسفة لتعريفهم للفلسفة ذاته ناتج عن مجموعة من الأسباب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أن تعريف الفلسفة مشروط بفلسفة صاحبه: إذ أن كل تعريف للفلسفة هو بمثابةمرآة تعكس لنا فلسفة صاحبه أو رؤيته الخاصة للإنسان والمجتمع والمادة التاريخوالحياة… وكذا موقفه من كل هذا. وغير خاف عنا أن مثل هذه المواضيع مقترحة و رسمية مدعاةلاختلاف وجهات النظر إليها والتموقف منها فمثلا أفلاطون (428-348ق.م) يعرفالفلسفة بأنها «علم الحقائق المطلقة الكامنة وراء ظواهر الأشياء»وهذاالتعريف يعكس لنا فلسفة أفلاطون ويسير في اتساق مع رؤيته للعالم. إذ أنأفلاطون يقسم العالم إلى عالمين: عالم مادي سفلي محسوس(يدرك بواسطةالحواس) وهو الذي نعيش فيه فهو عالم المادة المتحركة دوما والمتغيرةباستمرار، ومن هنا فالحقيقة في هذا العالم منعدمة الوجود وإن وجدت فهي لامطلقة ولا ثابتة بحكم حركته الدائمة تلك. وهناك عالم مثالي علوي معقول (يدرك بواسطة العقل) وهو عالم المثل العليا الثابتة ثباتا مطلقا، وأعلىمثال في هذا العالم هو مثال الخير الأسمى وهو الله. ومن هنا فالحقيقةموجودة في عالم المثل. فالعالم السفلي عالم الطبيعة (الفيزيقا Physique) والعالم العلوي عالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا Métaphysique). ومنهنا فالحقيقة التي تستهدف الفلسفة الحصول عليها لا توجد في ظواهر الأشياءبل وراء هذه الظواهر أي في الجوهر لا في المظهر.
وإذا انتقلنا إلى أرسطو Aristote ( 384-322 ق.م) نجده يعرف الفلسفة بأنها « علم المبادئ والعلل الأولى للوجود »أو«علم الوجود بما هو موجود» وهذاالتعريف كذلك ينسجم مع فلسفة أرسطو ويعكس لنا صورة عنها. فأرسطو يرى بانما من معلول إلا ووراءه علة أي أن لكل نتيجة سببا، فإن نحن أردنا أن نعرفالموجودات كنتيجة متحققة في الكون علينا أن نعرف علة وجودها. والعلل عندأرسطو أربعة وهي: علة مادية وهي ما منه الشيء يكون (كالخشب مثلا)، وعلةصورية وهي ما عليه الشيء يكون (كصورة أو شكل الكرسي مثلا)، وعلة فاعلة وهيما به الشيء يكون (كالنجار مثلا)، ثم علة غائية وهي ما من أجله الشيء يكون (كالجلوس عليه مثلا). أما علة العلل أو العلة الأولى التي لا علة لها فهيالله ومن هنا كانت الفلسفة عند أرسطو هي العلم بهذه المبادئ أو العللالأولى للوجود.
أن تعريف الفلسفة مشروط بروح عصره وظروف مجتمع صاحبه: وفي هذا قال كارلماركس Karl Marx (1818-1883) « إن كل فلسفة هي الخلاصة الروحية لعصرها». فالمادة التاريخ الإنساني ليس متماثلا في تجاربه وحضاراته بل لكل شعب ولكل عصرظروفه ومعطياته الخاصة ونوع إشكالياته المهيمنة فيه… فالعصراليوناني-مثلا- لا يتطابق مع العصر الوسيط أو عصر النهضة كما أن المجتمعالمسيحي غير المجتمع الإسلامي… فإن نحن أخذنا مثال ابن رشد (1126-1198) وجدناه يعرف الفلسفة أو فعل التفلسف قائلا «فعل التفلسف ليس شيئا آخر أكثرمن النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع… فإنالموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وكلما كانت المعرفة بصنعتهاأتم، كانت المعرفة بالصانع أتم». فالفلسفة إذن تأمل في المخلوقات وأخذالعبرة منها من حيث هي دالة على الخالق(الله)، وكلما كانت معرفتنابالمخلوقات دقيقة كلما كانت معرفتنا بالله الخالق لها دقيقة كذلك. وهنانجد ابن رشد يسعى جاهدا إلى البرهنة على أن «الحكمة صاحبة الالشريعة الاسلامية والأختالرضيعة» على حد قوله أي الاستدلال على أن الفلسفة والدين معا يستهدفانتحقيق نفس الغاية ألا وهي معرفة الحق الخالق وإثبات وجوده. فإذا كان الدينيحقق هذا الهدف من خلال مطالبتنا بتدبر آيات القرآن فإن الفلسفة تسعى إلىتحقيق نفس الهدف من خلال اعتبار وتدبر آيات الله في خلقه مصداقا لقولهتعالى «ألم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؟». وسببالتجاء ابن رشد إلى تعريف الفلسفة باعتبارها وسيلة مثل الدين توصل إلىمعرفة الخالق هو أن الإشكال الذي هيمن في المجتمع الإسلامي في العصرالوسيط هو إشكال مدى علاقة الفلسفة (الحكمة) بالدين (الالشريعة الاسلامية) وهو ما ينعتبإشكالية العقل والنقل. ومن هنا نستنتج بأن كل فلسفة وبالتالي كل تعريفللفلسفة مرتبط بعصره ومشروط بظروف صاحبه ومعبر عنها.
أن تعريف الفلسفة مشروط بتقدم الفكر العلمي في المرحلة التي وضع فيها: إذأن نشأة الفلسفة ذاتها كانت مرتبطة بالعلوم: فهذا فيتاغوراس يرجع الكونإلى عدد وما اعتبار الفلسفة كبحث عن الحقيقة لذاتها إلا محاكاة لاستدلالاتالمادة الرياضيات المجردة والمتعالية عن المنفعة المادية والتطبيق المحسوس. وهذاأفلاطون يكتب على باب أكاديميته «لا يدخل علينا من لم يكن رياضيا(أومهندسا)». وهذا روني ديكارت René Descartes (1596-1650) يقول «الفلسفةشجرة جذورها الميتافيزيقيا وجذعها العلوم الطبيعية وأغصانها المتفرعة عنهذا الجذع هي كل العلوم الأخرى… وترجع إلى ثلاثة رئيسية هي: الطبوالميكانيكا والأخلاق… وتفترض معرفة كاملة بسائر العلوم». فعلاقة الفلسفةبالعلم إذن علاقة جدلية إذ أن تطور أحدهما يؤدي بالضرورة إلى تطور الآخروالعكس بالعكس. وفي هذا السياق يقول هيجل HEGEL (1770-1831) «إن الفلسفةتظهر في مساء اليوم الذي تظهر في فجره العلوم» ويقول انجلز (1820-1895)« إن الفلسفة حية دائما في العلوم ولا يمكن أن تنفصل عنها». ومن هذا نستنتجبأن بين العلم والفلسفة إفادة واستفادة متبادلتين.
وإذا كان الفلاسفة قد اختلفوا في تعريفهم للفلسفة فهم كذلك اختلفوا في طرقتفكيرهم فيها وإنتاجهم لها وتعبيرهم عنها: فمثلا سقراط Socrate (حوالي 469-399ق.م) يتخذ من الحوار التوليدي أسلوبا في التفكير، في حين أن أرسطويعتمد على العرض المنطقي الصارم أما نتشيه Nietzsche(1844-1900) فيلجأ إلىاللغة الشاعرية والبلاغة والرمز، في الوقت الذي يرتكز فيه سبينوزا Spinosa(1632-1677) على الاستدلال شبه الرياضي…الخ.
ولكن إذا كانت تعاريف الفلاسفة للفلسفة متباينة وكذلك هو شأن طرق تفكيرهموعرضهم لفلسفاتهم, أفلا توجد بعض الضوابط والخصائص الثابتة في كل فلسفة؟أليس هناك قاسم مشترك بين جل هذه الفلسفات حتى لا نقول كلها ؟
بلى، هناك مجموعة من الخصائص التي يكاد يجمع عليها جل الفلاسفة إن لم نقل كلهم، وفيما يلي سنعرض لبعضها:
‌أ- الشمولية: والمراد بها دراسة الكليات لا الجزئيات، أي الاهتمام بما هوشمولي عام والابتعاد عن الحالات الفردية المعزولة في الزمان والمكان، فإذاكان الجيولوجي يبحث في أصل تكون جبل أو نهر ما فإن الفيلسوف يبحث في أصلالكون ككل لا في أصل جزء منه.
‌ب- النسقية: وهي من جهة التنظيم والترتيب المنهجي المحكم للقضاياوالإشكاليات والأفكار، ومن جهة ثانية الاتساق وعدم التناقض مع الذات.
‌ج- الصرامة المنطقية: وتتمثل في التدرج في عرض الأفكار على شكل سلسلةمترابطة الحلقات يتم فيها الانتقال من البسيط إلى المركب ومن السهل إلىالصعب ومن المعلوم إلى المجهول، ثم استخلاص النتائج المترتبة عنهاوتبريرها منطقا بأن يكون الحجاج المقدم عنها حجاجا عقليا مقبولا ومقنعا.
‌د- الموقف النقدي: ويقصد به إعادة النظر الدائمة في القضايا والأفكاروالقيم القديمة السائدة حول موضوع ما. وفي هذا يقول سقراط بأن الخطابالفلسفي «يبحث على الإزعاج ويوقظ من النعاس العميق» ويضيف برتراند راسل Bertrand Russell(1872-1970) بأن الفلسفة «قادرة على اقتراح إمكانات عديدةتوسع آفاق فكرنا وتحرر أفكارنا من سلطان العادة الطاغي… وتزيل التزمت» وذلك باعتماد الشك المنهجي( (Doûte Méthodique في كل شيء من أجل الوصولإلى اليقين، مع الإيمان بأن الحقيقة –التي تنشدها كل فلسفة – ليست مطلقةبل هي نسبية دوما. ولذا نجد أنه ليس هناك من فيلسوف لم ينتقد سابقيه أومعاصريه وليس هناك من فيلسوف لم ينتقد من معاصريه أو لاحقيه، و بهذاالمعنى تكون الفلسفة عبارة عن حوار انتقادي.
‌ه- التساؤل المستمر: وهو في الوقت ذاته نتيجة للموقف النقدي وسبب له، إذأنه كما يقول ياسبيرز «الأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة، وكلجواب يصبح بدوره سؤالا جديدا». فالفيلسوف الحق هو الذي يبتدئ بسؤال وينتهيإلى علامة استفهام، وبين هذا وتلك يقترح الحلول والأجوبة الممكنة ويبررهاوينتقد غيرها ويعلل ذلك بطرق مبرهن عليها…
‌و- الاهتمام بقضايا الإنسان: وذلك بالبحث فيه من حيث أصله وطبيعتهووظيفته ومصيره ومختلف علاقاته مع نفسه والآخرين ومع الطبيعة ومع الله،ولهذا كانت رسالة الفلسفة هي الحرص على قيمة الإنسان كل إنسان أيا كان. وفي هذا يقول هيجل « إن الدفاع عن الفلسفة هو دفاع عن الإنسان!».
علاوة على ما سبق يمكن أن نضيف بأن الفلسفة إيمان قوي بالحرية في القولوالفعل (الديمقراطية)، واحترام لا مشروط للرأي الآخر في الوجود (التسامح)،ونبذ لكل أصناف التسلط والعنف (التحرر). يقول فولتير Voltaire (1694-1778)«مهما اختلفت معك سأدافع عنك إلى آخر رمق في حياتي حتى تعبر عنرأيك بكل حرية» .
وإذا عدنا إلى نشأة الفلسفة كنسق فكري إشكالي نقدي وكصورة للعالم نجد بأنمكان ميلادها كان هو بلاد اليونان وزمانه كان هو القرن 6 قبل الميلاد. ولهذا ذهب المتعصبون للغرب أمثال ادموند هوسرل Edmund Husserl (1859-1938) إلى أنها « علم يوناني». ولكن هذا الزعم يجب ألا ينسينا بأن الأقوامالشرقية القديمة كالبابليين والآشوريين والهنود والصينيين والفرسوالفراعنة قد كانت لهم أفكار ومواقف وتصورات وأطروحات ذات نفحةميتافيزيقية وصبغة فلسفية حول الإنسان والعالم والله. إلا أن هذه التصوراتكانت من جهة ذات هدف نفعي براغماتي علمي، ومن جهة ثانية لم تكن مبنية بناءنظريا صوريا منسقا، ومن جهة ثالثة كانت تفتقر إلى الاستدلال المنطقيوالبرهان العقلي. فهذه المميزات لم تتأتى للإنسان إلا مع اليونان وقدتحققت نتيجة لتوفر مجموعة من العوامل التي نذكر على رأسها ما يلي:
العامل الجغرافي: المتمثل في الموقع الاستراتيجي الذي كانت تحتله بلادvاليونان الكبرى، إذ كانت تطل على حوض البحر الأبيض المن التعليم المتوسط مهد الحضارات،وتتوسط ثلاث قارات (أوروبا وآسيا وإفريقيا).
العامل المادة التاريخي: إذ تأتى للقبائل والمدن والجزر اليونانية المشتتةوالمتطاحنة الالتفاف حول وحدة قومية وأمة واحدة خلال القرن 9 قبل الميلاد.
العامل الاقتصادي: ومؤشره نمو قطاعي الفلاحة والصيد البحري وازدهارالصناعة باكتشاف الحديد وصهره علاوة على تطور التجارة الداخلية والخارجيةالبرية والبحرية خاصة بعد صك النقود والانتقال من المقايضة إلى البيعوالشراء.
العامل الاجتماعي-السياسي: وتجلى في ظهور ثلاث شرائح اجتماعية تتنافس علىالحكم (وهي شريحة الفلاحين ثم الصناع فالتجار)، الشيء الذي أدى إلى تبنيالنظام الديمقراطي المرتكز على الحرية في الترشيح والتصويت وعلى الحوارومقارعة الحجة بالحجة وعلى احترام الرأي الآخر ونبذ العنف والاحتكام إلىصوت الأغلبية، والخضوع لسلطة العقل، وقواعد اللعبة السياسية هاته سرعان ماستتحول إلى قواعد اللعبة الفكرية عامة ( إذ سيتبناها التفكير الفلسفي بلوسيطورها).
العامل الثقافي-الفكري: إذ جمع التراث الأسطوري اليوناني في ملحمتينيونانيتين وهما: الإلياذة والأوديسا اللتان نسبتا لهوميروس HOMERE (حوالي 800ق.م)، كما تم تبسيط الأبجدية اليونانية وتيسير التعليم وتعميمه.
وهكذا نرى بأن تضافر هذه العوامل وغيرها هو الذي أبان عن الحاجة إلىاستكناه الوجود وبالتالي إلى التفلسف. فلو توفر هذا لغير اليونان من قبللكان ظهور الفلسفة عند غير اليونان.
ولقد اشتقت كلمة فلسفة PHILOSOPHIE من كلمتين يونانيتين وهما فيلوس (Philos) ومعناها محبة, ثم صوفيا (Sophia) وهي الحكمة, وبهذا تكون الفلسفةهي محبة الحكمة ويكون الفيلسوف (Philosophos)هو محب الحكمة وليس الحكيم «لأن الحكمة لا تضاف لغير الآلهة» كما قال فيتاغورس. إذن «فالفلسفة هيدراسة الحكمة» حسب قول ديكارت، والحكمة هي«الخير الأسمى» وفق تعريف سقراط. والخير هنا ليس هو المنفعة الذاتية المادية العاجلة بل هو الكمال والسموالروحي. وبهذا تكون الفلسفة أو«الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصورالأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية» علىحد تعبير ابن سينا(980-1037).
وقد كان ظهور التفكير الفلسفي مقترنا بالدهشة L’Etonnement: فهذا أرسطويقول « إن ما دفع الناس في الأصل وما يدفعهم اليوم إلى البحوث الفلسفيةالأولى هو الدهشة» ومن هنا كانت « الدهشة هي أم الفلسفة ومنبعها الخصب!» وذلك كما قال آرتور شوبنهاور Arthur-Schopenhauer (1788-1860) « لأنالإنسان حيوان ميتافيزيقي، ومما لا شك فيه أنه عند بداية يقظة وعيه، يتصورفهم ذاته أمرا لا يحتاج إلى عناء، غير أن ذلك لا يدوم طويلا: فمع أولتفكير يقوم به، تتولد لديه تلك الدهشة التي كانت على نحو ما، أصلالميتافيزيقيا». والمراد بالدهشة هنا ليس فقط الحيرة والتعجب بل هي حالةتوتر ذهني ونفسي ممزوجة بالقلق ومفعمة بالاهتمام وأحيانا بالألموالمعاناة. وللدهشة علاقة بأكثر من مفهوم مثل: العزلة والغربة والانفصالوالانفصام والذهول بل وحتى القطيعة. إلا أن الدهشة الفلسفية غير الدهشةالعلمية أو العامية ذلك لأن العالم والعامي معا لا يندهشان إلا أمامالظواهر الغريبة النادرة بغية فهمها ومعرفة أسبابها كما قالت العرب«إذاعرف السبب زال العجب»، أما الفيلسوف فيتجاوزهما ليندهش أمام كل الظواهر بلوحتى أمام أكثر الأشياء والوقائع ألفة واعتيادا مستهدفا تأمل ذاته وعالمهلتكوين صورة واضحة المعالم عنهما.
وقد ظهر التفكير الفلسفي كنمط جديد في مناخ نظري-ثقافي تميز بهيمنة نوعين من التفكير: أولهما الأسطورة وثانيهما السفسطة.
فأما الأسطورة (الميثوسMythos) فكانت تنتصب كقول ديني مقدس يعرض للخوارقوبطولات الآلهة وصراعاتهم وخلقهم لمختلف الكائنات وتدبيرهم لشؤونها وسهرهمعلى نظام الكون… الخ. وأما السفسطة فكانت تعتمد على أصناف الكلام المجازيوالمحسنات البديعية والتلاعب بالألفاظ أو بكلمة واحدة على البلاغة لتمريرخطابها المؤسس على مركزية الإنسان في الكون، هذا الإنسان الذي قال عنه أحدأقطابها وهو بروتاغوراسProtagoras (481-411ق.م)«الإنسان مقياس كل شيء».
ويمكن القول تجاوزا بأن كلا من الخطابين الأسطوري والسفسطائي كان موجهاإلى المشاعر والوجدان مدغدغا إياها ومخاطبا عواطف الإنسان مكتسبا قوته إمامن قداسة الدين كما هو حال الأسطورة أو من سلطة اللغة كما هو حال السفسطة.
وهكذا وجدت الفلسفة نفسها منذ بداية عهدها بالحياة مطالبة بإثباتمشروعيتها والدفاع عن كينونتها وانتزاع أحقيتها في الوجود داخل الساحةالفكرية ليونان القرن السادس قبل الميلاد. فكان تسلحها بالمنطق (اللوغوسLogos) ومخاطبتها لأنبل ما في الإنسان ألا وهو العقل (نوسNous). وفي هذا يقول هيرقليطس Héraclite(544-483ق.م)«دعونا نصغي لحكمة اللوغوس» ويضيف أفلاطون«علينا أن نساير العقل إلى حيث يذهب بنا».
وبعد صراع مرير بين الفلسفة(اللوغوس) والأسطورة (الميتوس) من جهة وبينهاوبين السفسطة من جهة ثانية استطاعت الفلسفة-باعتمادها الحوار التوليديكمنهج والاستدلال العقلي لإقحام الخصم والبرهنة على أطروحاتها أقولاستطاعت الفلسفة- أن تشق لنفسها طريقا أوصلها إلينا اليوم ولكن ثمنها كانغاليا إذ مات سقراط من اجل أن تحيا الفلسفة.
وهذا يقودنا إلى التساؤل عمن يكون الفيلسوف؟ ولإعطاء صورة ولو موجزة عنهيقول نيتشه«(الفيلسوف هو) ذلك الكائن الذي يتصارع فيه لأول مرة… الميل إلىالحقيقة مع…الأخطاء» ويضيف ميرلوبونتيMerleau-ponty-Maurice (1908-1961)«إن الفيلسوف هو الإنسان الذي يستيقظ ويتكلم». ومعنى هذا أنالفيلسوف شخص ينفرد عن غيره بيقظة وعيه واتقاد حسه النقدي المتمثل فياستهدافه للحقيقة، وإيمانه بأن الخطأ لحظة من لحظات اكتشافها، والتزامهبها، وسعيه الحثيث من أجل تبليغها ولو كره الكارهون. ومن هنا كانت معاناةالفلاسفة ومحنهم العديدة، ولهذا ذاته يقال «الفلسفة معاناة» فهي معاناةلإلحاحية القضايا وامتهان لحرقة السؤال.
ولقد كانت الفلسفة –كما أشرنا إلى ذلك من قبل- مع اليونان والى حدود القرن 18 «أم العلوم» إذ كانت تنتظم داخلها مجموعة من المعارف والعلوم، فكانتبهذا معرفة موسوعية بشتى الميادين وإحاطة شاملة بالعديد من المواضيع مقترحة و رسميةوالمباحث التي كانت تندرج كلها تحت ثلاثة محاور رئيسية وهي: مبحث الوجودأو الانطولوجيا Ontologie، ومبحث المعرفة أو الإبستيمولوجياEpistémologie ثم مبحث القيم أو الأكسيولوجيا Axiologie.
إلا أن مختلف العلوم، التي شكلت في الماضي جزءا لا يتجزأ من الفلسفة سرعانما أخذت في الانفصال عن الفلسفة-الأم. وهكذا انفصلت تدريجيا كل منالمادة الرياضيات والمادة العلوم الفيزيائية و التكنولوجية وعلم الفلك والبيولوجيا والسوسيولوجيا والسيكولوجياوبهذا تقلصت دائرة الفلسفة، فما الذي تبقى لها ؟.
جوابا على هذا السؤال يمكن القول بأنه إذا كانت هذه العلوم وغيرها قداستقلت بذاتها عن الفلسفة فكونت لنفسها موضوعات خاصة بها وضبطتمناهجهاوحددت مفاهيمها وتحلق حولها رجالاتها وأعطت نتائجها سواء على المستوىالنظري أو العملي، فإن الفلسفة لم تتخل عنها بل سرعان ما عكفت على تفحصهذه الموضوعات والمناهج والمفاهيم والنتائج وانعكاسات كل هذا على الإنسان،وهذه هي فلسفة العلوم أو الابستيمولوجيا. ثم لا ننسى بأن مختلف هذه العلومقد حققت نتاجات تكنولوجية عالية خلقت بدورها نوعا من الانبهار بها لدىالإنسان،ولكن الفلسفة عادت مرة أخرى لدراسة مخلفات وعواقب ومضاعفات هذهالنتائج التكنولوجية على مستوى الإنسان وبيئته، وهذا بهدف خلق نوع منالتوازن والانسجام بين الطبيعة والعلم وقيم الإنسان. وهنا تكمن القيمةالأخلاقية للتصور الفلسفي المعاصر، إذ أن الفلسفة التزام بقضايا الإنسانودفاع عن قيم الإنسانية الخالدة من حرية وكرامة وعدالة وسعادة… في سبيلبناء غد أفضل للإنسانية جمعاء.
فالفلسفة كما قال سقراط « درس في تطهير العقل » ولكن التفلسف كما قال إيمانويل كانط Emmanuel KANT (1724-1804) « درس لا يتعلم » .
في ختام هذا الدرس يحق لنا أن نتساءل قائلين: إلى أي حد نكون قد توفقنا فيالجواب على السؤال الذي افتتحنا به هذه الورقة؟ فهل استطعنا أن نحدد ماهيةالفلسفة أو على الأقل أن نكون صورة ما عنها؟ يجيب نيابة عنا روني لوسين René le senne قائلا « الفلسفة طفل همجي: فهي تضيق ذرعا بكل تقييد، وتنفردائما من كل تحديد » .
ولهذا يبقى من حق كل منا أن يتساءل قائلا: ما هي الفلسفة ؟




https://fbcdn-sphotos-d-a.akamaihd.net/hphotos-ak-ash4/482113_236967293114455_1193518507_n.png (http://www.dzbatna.com)
©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى (http://www.dzbatna.com)©

استعمل مربع البحث في الاسفل لمزيد من المواضيع


سريع للبحث عن مواضيع في المنتدى