المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بــلاغة الكِنـــاية



romaissa
11-05-2013, بتوقيت غرينيتش 02:19 AM
السلام عليكمhttp://www.dzbatna.com/images/smilies/dj_17.gif

بــلاغة الكِنـــاية

الكناية مَظْهَر من مظاهر البلاغة , وغاية لا يَصِل إليها إلا من لَطف طبعُة وصَفت قريحته , والسرُ في بلاغتها أنها في صور كثيرة تُعطِيكَ الحقيقة مصحوبة بدليلها , و القضية وفي طَيها بُرْهَانُ ,كقول البحتري في المدح :

يغُضون َفضْل اللحْظِ مِنْ حيثُ مَا بَدَا لهُم عنْ مَهيبٍ في الصدور محَببِ
فإنه كَنى عن إكبار الناس للممدوح وَهَيْبِتهِمْ إياه بغَض الأبصار الذي هو في الحقيقة برهان على الهيبة والإِجلال , وتظهر هذه الخاصة جليةً في الكنايات عن الصفة والنسبة .
ومن أِسباب بلاغة الكناية أَََنها تََضَع لك المعاني في صور المحسنات , ولا شك أن هذه خاصة الفنون فإن المصور إذا رسم لك صورة للأَمل أَو اليأس بَهرَك و جَعَلك ترى ما كنت تَعْجزُ عن التعبير عنه واضحاً ملموساً .
فمثل (كثير الرماد ) في الكناية عن الكرم و (رسول الشر ) في الكناية عن المزاح وقول البحتري :
أَمَاَ رأَيْتَ الْمَجْدَ أَلْقى رَحْلةُ فيِ آلِ طَلْحةَ ثم لَمْ يتَحَولِ
في الكناية عن نسبة الشرف إلى آل طلحة , كلُّ أُولئك يُبرِزُ لك المعاني في صورة تشاهدها و ترتاح نفسُك إليها .
ومن خواص الكناية أنها تمكِّنك من أن تَخْدِشَ وجه الأَدب , وهذا النوع يسمى بالتعريض , ومثاله المتنبي في قصيدة يمدح بها كافوراً ويُعرِّض بسيف الدولة :

رحلتُ فكَمْ باكٍ بأَجفان شادِنٍ عَلَىَّ وكم باكٍ بأَجفانِ ضَيْغَمِ"الشادن.1"
وَمَا ربة القُرْطِ المليح مكانُةُ بأجْزَعَ من رَبِّ الحسَام المصمم"القرط.2"
فَلَوْ كان ما بي مِنْ حبيبٍ مُقنَّعٍ عذَرْتُ ولكنْ من حبيبٍ مُعَمَّمِ
رَمى واتقى رمى ومن ْ دون ما اتقى هَوَّى كاسر ٌ كفِّى وقوسِي و أسهمي
إذا ساء فعل المرء ساءَت ظنونه وصدق مـا يعتاده من توهم
فإنه كنى عن سيف الدولة أولاً بالحبيب المَعََّمم , ثم وصف بالغدر الذي يدعي أنه من شيمة النساء , ثم لامه على مباد هته بالعدوان , ثم رماه بالجبن لأنه يرمي ويتقي الرمي بالاستتار خاف غيره , على أن المتنبي لا يجازيه على الشر بمثله لأنه لا يزال يحمل له بين جوانحه هوى قديماً يكسِر كفه وقوسَه وأسهمه إذا حاول النضال, ثم وصفة (جزائرية) بأنه سيئ الظن بأصدقائه لأنه سيئ الفعل كثير الأوهام و الظنون حتى ليظن أن الناس جميعاً مثلهُ في سؤ الفعل وضعف الوفاء . فانظر كيف نال المتنبي من سيف الدولة هذا النيل كله من غير أن يذكر من اسمه حرفاً .
هذا ,ومن أوضح ميزات الكناية التعبير عن القبيح بما تسيغ الآذان سماعه . وأمثلة ذلك كثيرة جداً في القرآن الكريم وكلام العرب , فقد كانوا لا يعبرون عما لا يحسن ذكره إلا بالكناية , وكانوا لشدة نخوتهم يكنون عن المرأة بالبيضة والشاة .
ومن بدائع الكنايات قول بعض العرب :

ألا يا نخلة من ذات عرق عليك ورحمة الله السلام "2ذات عرق ."
فإنه كنى بالنخلة عن المرأة التي يحبها .
ولعل هذا المقدار كاف في بيان خصائص الكناية وإظهار ما تضمنته من بلاغة وجمال .....

أثر علم البيان في تأدية المعاني

ظهر لك من دراسة علم البيان أن معنى واحداً يستطاع أداؤه بأساليب عدة وطرائقَ مختلفة , وأنه قد يوضع في صورة رائعة من صور التشبيه , أو الاستعارة , أو المجاز المرسل , أو العقلي , أو الكناية .
فقد يصف الشاعر إنساناً بالكرم فيقول :
يريد المُلوكُ مَدى جَعْفرٍ ولا َيصْنَعونَ كما يَصْنَعُ
وَلَيْس بأَوْسعِهِمْ فيِ الغِنَى ولكِنَّ معـرُوفَه أَوسَعُ

وهذا كلامٌ بليغ جدّاً مع أنه لم يُقْصَد فيه إلى شبيه أو مجاز , وقد وصف الشاعر فيه ممدوحة بالكرم وأن الملوك يريدون أَن يبلغوا منزلته , ولكنهم لا يشترون الحمد بالمال كما يفعل , مع أنه ليس بأغنى منهم ولا بأكثر مالاً ..
وقد يعتمِد الشاعر عند الوصف بالكرم إلى أسلوب آخر فيقول :

كالْبَحْر يَقْذِف للقَرِيب جواهراً جوداً وَيَعْثُ لِلْبَعِيِد سَحَائِبَا
فيشبِّه الممدوح َ بالبحر , ويَدْفَعُ بخيالك إلى أن يضَاهِيِ بين الممدوح و البحر الذي يقذِف الدرر للقريب و يُرسل السحائب للبعيد ..
أو يقول :
هو اْلبَحْرُ مِنْ أَيِّ النواحي أَتَيْتَهُ فلُجَّتُهَ المعْروفُ وَ الجُود سَاحِلُهْ
فيدعي أنه البحر نفسه وينكر التشبيه نُكراناً يدل على المبالغة و ادعاء المماثلة الكاملة.
أو يقول:
علا فَما يَسْتَقَرُّ المال في يدِه وكيف تمْسكُ ماءً قُنَّةُ الجَبَلِ
فيرسل إليك التشبيه من طريق خفي ليرتفع الكلام إلى مرتبة أعلى في البلاغة , وليجعل لك من التشبيه الضمنيّ دليلاً على دعواه ,فإنه ادعى أنه لعلو منزلته ينحدر المال من يديه , و أقام على ذلك برهاناً فقال :
(( وكيف تمسك ماءً قٌُنَّة الجبل ؟ ))
أو يقول :
جَرَى النهر حتى خِلْتُهُ مِنْكَ أنعُماً تُساقُ بلاَ ضَنٍّ وتُعْطى بِلاَ مَنّ "1الضن."
فيقلب التشبيه زيادة في المبالغة وافتناناً في أساليب الإجادة , ويشبه ماء النهر بنعم الممدوح بعد أن كان المألوف أن تُشَبَّه النعم بالنهر الفياض ..
أو يقول :
كأنه حينَ يُعْطي المال مُبْتَسماً صَوْبُ الغمَامَةِ تَهمي وهي تأْتلِقُ "2نهمي."
فيعمد إلى التشبيه المركب , ويعطيك صورة رائعة تمثل لك حالة الممدوح وهو يجود , وابتسامة السرور تعلو شفتيه ..
أو يقول :
جَاَدَتْ يَد الفَتْحِ والأَنْواءُ بَاخِلةٌ وَذابَ نَائِلُهُ والغَيْثُ قَدْ جَمَدَا
فيضاهي بين جود الممدوح والمطر . ويدعي أن كرم ممدوحة لا ينقطع إذا انقطعت الأَنواء أو جَمدَ القطر ..
أو يقول :
قَدْ قُلْتُ لِلْغيْم الرُّكام ولَجَّ في إِبْراقِهِ وأَلَحَّ في إرْعَادِه "الغيم الركام ..3"
لاَ تَعْرِضَنَّ لِجعْفَر مُتَشَبِّهاً بِندَى يَدَيْهِ فلست من ْ أَنْدادِه
فيصرح لك في جلاء وفي غير خشيه بتفضيل جود صاحبة على جود الغيم , ولا يكتفي بهذا بل تراه يَنْهَى السحاب في صورة تهديد أن يحاول التشبيه بممدوحة لأنه ليس من أَمثاله ونظرائه ..
أو يقول :
وأَقْبَلَ يَمْشِي فيِ البِسَاط فما درى إلى البَحْر يَسْعَى أمْ إلى البدْر يَرْتقى
يصف حال رسول الروم داخلاً على سيف الدولة فينزع في وصف الممدوح بالكرم إلى الاستعارة التصريحية , والاستعارة كما علمت مبنية على تناسي التشبيه والمبالغة فيها أعظم وأثرها في النفوس أبلغ ..
أو يقول:
دَعَوْتُ نَدَاه دَعْوَةً فأجابني وعَلَّمَنِي إحْسانُه كيف أمله
فيشبِّه ندى ممدوحة وإحسانَه بإنسان . ثم يحذف المشبه به ويرمز إليه بشيء من لوازمه , وهذا ضرب آخر من ضروب المبالغة التي تساق الاستعارة لأجلها .
أو يقول :
(( ومنْ قَصَدَ الْبَحر استقر الَّسواقِيا ))
فيرسل العبارة كأنها مثل , ويصور لك أن من قصد ممدوحة استغنى عمن هو دونه , كما أن قاصد البحر لا يأبه للجداول فيعطيك استعارة تمثيلية لها روعة وفيها جمال , وهي فوق ذلك تحمل برهاناً على صدق دعواه وتؤيد الحال التي يدعيها ..
أو يقول:
مَا زِلْتَ تُتْبعُ ما تُولى يداً بيدٍ حَتّى ظَنْنتُ حَياتي مِنْ أيا ديكا
فيعدِل عن التشبيه والاستعارة إلى المجاز المرسل , ويطاق كلمة " يد " ويريد بها النعمة لأن اليد آله النعم وسببها .
أو يقول :
أَعَادَ يَومُكَ أَيّاميِ لِنَضْرَتِها واقتص جُودُك مِنْ فقرِى و إعْساري فيُسند الفعل إلى اليوم وإلى الجود على طريقة المجاز العقلي ..
أو يقول :
فَما جَزَهُ جودٌ ولا حَل دُونه وَلكنْ يسيرُ الجودُ حيثُ يسيرُ
فيأتي بكناية عن نسبة الكرم إليه بادعاء أن الجود يسير معه دائماً,لأنه بدل أن يحكم بأنه كريم ادعى أن الكرم يسير معه أينما سار ..
ولهذه الكناية من البلاغة و التأثير في النفس و حسن تصوير المعنى , فوق ما يجده السامع في غيرها من بعض ضروب الكلام .
فأنت ترى أنه من المستطاع التعبير عن وصف إنسان بالكرم بأربعة عشر أسلوباً , كل ُّ له جماله وحسنُه وبراعته , ولو نشاء لأتينا بأساليب كثيرة أُخرى في هذا المعنى ,فإن للشعراء ورجال الأدب افتنانا وتوليداً للأساليب ً والمعاني لا يكاد ينتهي إلى حد , ولو أردنا لأوردنا لك ما يقال من الأساليب المختلفة المناحي في صفات أخرى كالشجاعة و الإباء و الحزم وغيرها , ولكنا لم نقْصِد إلى الإطالة , ونعتقد أنك عند قراءَتك الشعر العربيّ والآثار الأدبية ستجد بنفسك هذا ظاهراً, وسَتْدهَش للمدى البعيد الذي وصل إلية العقل الإنساني في التصوير البلاغي َوالإبداع في صوغ الأساليب ..
هذه الأساليب المختلفة التي يؤدي بها المعنى الواحد هي موضع بحث علم البيان , ولا أظنك تفهم أن القدرة على صوغ هذه الأساليب البديعة موقوف على علم البيان ؛
لأن الافتنان في التعبير لا يتوقف على درس قواعد البلاغة , وإنما يُصْبحُ المرء كاتباً مجيداً , أو شاعراً مبدعاً أو خطيباً موثراً, بكثرة القراءَة في كتب الأدب وحفظ آثار العرب , وبنقد الشعر وتفهمه , ودراسة النثر الفني وتذوق أَسراره ؛ بهذا ترسخ فيه ملكةٌ تدفعه دفعاً إلى الإحسان والإجادة , ولا بد أن يعاضد هذه الملكة طبعٌ سليم وفطرة حساسة تكون مُعينةً لهذه الملكة وظهيرة لها .
ولكنَّا بعد كل هذا لا نستطيع أ نجحــد فائــدة علــم البيان والإلمام بقوانينه ,فإنه بما يفصل من الفروق بين الأساليب ميزان صحيح لتعرف أنواعها , ودراسة أدبية للفحص عن كل أسلوب وتبين سر البلاغة فيه ..




https://fbcdn-sphotos-d-a.akamaihd.net/hphotos-ak-ash4/482113_236967293114455_1193518507_n.png (http://www.dzbatna.com)
©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى (http://www.dzbatna.com)©

استعمل مربع البحث في الاسفل لمزيد من المواضيع


سريع للبحث عن مواضيع في المنتدى